اسمه فكرى، سياسى محترف يهوى المزايدة والاختلاف، حتى لو مع نفسه.. إذا طلب الحاضرون تنظيم اعتصام طالب بالإضراب، وإذا طلبوا الإضراب سارع بالدعوة إلى حمل السلاح. يقدم اقتراحات تقود دوما إلى الصدام، وتنهى أى جلسة بدون الوصول لاتفاقات.
كان يرى أن المزايدة هى أساس الممارسة السياسية. و هى التى جعلت منه زعيما. مع أنى لم أر له رأيا محددا فى أى قضية، بل إننى كثيرا ما كنت أراه يعلن رأيا ويخالفه فى جلسة تالية بلا أى شعور بالذنب.. حتى أصبح اسمه «فكرى مزايدات». أكثر المتحدثين مع أنه لا يقول شيئا مفيدا.
وكنت أسأله عن سبب ما يفعله، فينظر فى السقف كفيلسوف رواقى، ويحدثنى عن أهمية الاختلاف، وكيف أن كبار عظماء المفكرين كانوا مختلفين عن العامة والدهماء. لم أر لدى فكرى فكرة واحدة تستحق التوقف عندها لأنه كان «يلحس» أفكاره، ويناقضها فى نفس الوقت. وكان مقتنعا بأنه يمتلك من الذكاء ما يغنيه عن القراءة أو الاستماع لما يقوله الآخرون، أو ما يقوله هو نفسه. ومع إننى افتقده منذ سنوات فإن فكرى يلح على ذهنى كثيرا كلما قرأت أو شممت رأيا فضائيا فى مناظرة، أو كاتبا ينتع مقالا يناقض فيه ما كتبه سابقا، لمجرد أن يبدو مختلفا.
أو محاميا متخصصا فى رفع دعاوى قضائية على كل شخص وكل شيء، ضد فكرة أو فيلم أو كلمة أو تصريح، ندوة أو أغنية. قضايا تجعله طوال الوقت تحت أضواء الإعلام، يفت ويفتى فى أى شىء ولا يقول شيئا. وهى وظيفة أصبحت مطلوبة وتدر زبائن وأرباحا. وتملأ أوقات البرامج الفضائية بكثير من الكلام الذى يشبه بعضه.
أعود إلى فكرى مزايدات الذى كان يظهر كل فترة بفكرة أو مبدأ يعيشه ويعيش معه، تراه تنويريا تارة، وإسلاميا أخرى، ويساريا بعض الأحيان وليبراليا فى مرات، وفى كل مرة كان يبدو متطرفا فى فكره منحازا إلى نفسه، وبنفس الانحياز ينتقل إلى الجهة المعاكسة بلا تنبيه أو إنذار. وفى كل مرة يخلص لمعتقده حتى تكاد تصدقه. وسرعان ما يخذلك ليجلس فى ضفة اخرى. ومع الوقت عرفته ولم أعد أهتم كثيرا بكلامه ولا مواقفه، ولم أعد آخذه على محمل الجد. ولا حتى الهزل. لكنى رأيت فكرى يفقس فى حركات الاحتجاج، على الانترنت، وفى الصحف وعلى الشاشات.
اكتشفت أن فكرى ليس فردا، بل تيار يسعى ويتحرك فى الأجواء، وأن طريقته باتت هى الأكثر ملاءمة لعصر السرعة، وبرامج التوك شو، ان تبدو مختلفا لايهم مع ماذا أو مع من. المهم هو اختيار طريقة تطعن بها خصمك وتدميه وتهزمه وتمرمط به الأرض. وتخرج لامعا مختلفا متوهجا راضيا عن نفسك مثلما كان فكرى يفعل. حيث يدعو إلى حرب لايملك إمكاناتها، ويدلى بتصريحات يبدو فيها عليما ببواطن الأمور، يحلل كل شىء بيقين الجالس فى مخازن صنع القرار. وقد توسع هذا النوع مع شيوع عصر الانترنت حيث يجمع أخونا معلومات من هنا وهناك يرصع بها مقالاته أو يزحم بها خطاباته.
وكلما ظهر حادث أو قضية انتظر من فكرى أن يسير عكس التيار. ولعل زيارة الرئيس الأمريكى أوباما كانت آخر مثل على صحة نظرية فكرى، فقد ترك كثيرون القضية واندمجوا فىإعادة تفسير ما هو مفسر. كنت نسيت فكرى حتى عاد وظهر يطلبنى فى التليفون وقبل أن أساله أين كنت بدأ يقدم لى تحليلاته العظيمة فى أوضاع العالم بيقين ويسر وسهولة العارف بالله، والعالم ببواطن الأمور وظواهرها. قال لى إنه أعد خطابا موازيا لخطاب الرئيس الأمريكى أوباما، وهمس وهو يهاتفنى وقال لى إنه يعرف كاتب خطب أوباما، لم أسأله لأننى كنت أتوقع أن يكون هو نفسه العارف بالله فكرى مزايدات.