كلما دخلت المقهى أجده جالساً فى نفس الركن الذى يجلس فيه ولا يغيره وعلى نفس المقعد، الذى أصبح يعرف عند كل نادلى المقهى باسمه، فإن لم يجده طلب من النادل إحضاره, يجلس الرجل دائما حاملاً ستين عاماً فوق كتفيه، وهو يقرأ فى إحدى الصحف وإلى جواره كوم من الصحف اليومية تختلط بها بعض الصحف التى تهتم بكرة القدم، فيما يضع أمامه على الطاولة مجموعة لا بأس بها من علب أقراص وكبسولات الأدوية، حيث يتناول بين وقت وآخر قرصاً أو كبسولة دواء يبتلعها ببق من كوب القهوة، فهو لا يشرب القهوة فى الفنجان.
والرجل لمن لا يعرفه فهو الشخص القادر على تحقيق كل مطالب رواد المقهى من أى مصلحة أو هيئة حكومية مهما كانت، فهو قادر على إيجاد الوظيفة لأى شاب وفى أى مكان يطلبه، وهو قادر على أن يحقق لك كل ما تطلبه من أى هيئة أو مؤسسة حكومية، سواء أكان طلبك شرعياً أو غير شرعى، فإذا كان طلبك شرعياً ولا تريد الوقوف فى الطوابير أو اللف والدوران على المكاتب فى المؤسسات الحكومية، فيكفى أن تكتب له توكيلاً باسمه وموثقاً فى الشهر العقارى وبعد الاتفاق على المعلوم، فسوف ينجز لك ما تريده فى ساعة واحدة متخطياً كل التقاليد البيروقراطية فى مثل هذه الأمور.
أما إذا كان طلبك غير شرعى وتريد الحصول على حق ليس من حقك، مثل بناء طابق مخالف أو طابقين فى عمارتك، فسوف يتفق معك على المعلوم الذى سوف يتقاضاه منك قبل التنفيذ، لكن الرجل قد بدأ يفكر فى الاستقالة من هذا العمل، لأن هناك دخلاء دخلوا هذه المهنة من الموظفين الكبار السابقين دون أن يراعوا التقاليد الواجبة على من يمتهن هذه المهنة, الرجل يجيد رشوة كبار الموظفين، وكذلك صغارهم، كل حسب درجته ومنصبه، ويقسم لك بأغلظ الأيمان أنه لا يأخذ لنفسه شيئاً إلا العمولة التى يتقاضاها أى سمسار.
بالأمس قرر الرجل أن يتلطف معى ويلقى على التحية من بعيد فوجدتها فرصة متاحة حتى أواسيه فى مرضه الذى يجعله يبتلع كل هذه الحبوب وكبسولات الدواء الملونة، تصافحنا وجلست إلى جواره وبدأت بالدعاء له حتى يشفيه الله من مرضه بما فيه داء السمسرة القبيح، فقال الرجل ببساطة، إنها حالة سوء هضم تصاحبه منذ سنوات، وكما يحدث دائماً فى مثل هذه الحالات، فقد بدأت أوصيه بالوصية التقليدية التى تنصح مثله بأكل الطعام المسلوق بعرق الحلة، أى بدون سمن أو أية دهون.
وهنا بدأ الرجل يشرح لى أن عسر الهضم ليس فى معدته، لكنه مصاب بعسر هضم فى ضميره، فهو لا يكف عن تناول كبسولات المهدئات حتى يوقف نقح ضميره عليه لكثرة الرشاوى التى يقدمها بنفسه، لكن ماذا يفعل وهذه هى مهنته؟، وهو يعرف أنها مهنة حقيرة تجعله دائماً يحتقر نفسه، لأنه حتى يحقق لزبائنه طلباتهم، فإنه يضطر دائماً لدفع الرشوة لكبار الموظفين، فإذا كان الله قد لعن الراشى والمرتشى، فهو يعرف أن الله يلعنه، لكن هناك من أفتى له بفتوى تمنع عنه لعنة الله، لأنه ليس راشياً ولا مرتشياً، فما هو إلا مجرد وسيط بين الراشى والمرتشى ولم يقل أحد من الفقهاء أو تابعيهم بلعن (الرائش)، والرائش هو الوسيط بين الراشى والمرتشى.
وبدأ الرجل يشرح لى قانون الرشوة، حيث إن القانون يعاقب على جريمة الرشوة فى المواد من "103 – 111" من قانون العقوبات وتنص على "كل موظف عمومى طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل من أعمال الوظيفة يعد مرتشياً"، ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة وبغرامة لا تقل عن 1000 جنيه ولا تزيد على ما أعطى أو وعد به، وفى المادة "103 مكرر" تعتبر فى حكم المرتشى، ويعاقب بذات العقوبة المنصوص عليها فى المادة السابقة "كل موظف عمومى طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه، الموظف المرتشى يشغل السلطات المخولة له بمقتضى هذه الوظيفة، وهى مظهر من مظاهر التدهور الأخلاقى، وقد يتوسط بين الراشى والمرتشى شخص ثالث، وهو (الرائش) وسماه القانون الوسيط، وعالجته المادة 107 مكرر و108 و110 وهو يعتبر ممثلاً لمن كلفه بالوساطة فليس له عمل مستقل فى جريمة الرشوة، بل هو رسول أحد الطرفين إلى الآخر، وقد يكون رسولاً مشتركاً بينهما، فهو فى مركز الشريك، والقانون لم يقتصر على عقاب الوسيط الذى قام بالوساطة فعلاً، وإنما تناول بالتجريم أيضاً من عرض أو قبل الوساطة فى رشوة ولم يتعد عمله مجرد العرض أو القبول، فجعل من فعله جريمة، وهناك ثلاثة أركان لجريمة الرشوة، الأول يتعلق بالصفة الخاصة للمرتشى إذ يتعين أن يكون موظفاً عاماً أو ممن يعدون فى حكمه والثانى: هو المادى، وهو الطلب أو القبول أو الأخذ، والثالث: هو الركن المعنوى أو القصد الجنائى.
وبالرغم من حالة حزن الرجل واحتقاره لنفسه ظناً منه أنه يستدر عطف سامعه، لكنى وجدت بداخلى حالة من الاحتقار الشديد له، ليس لأنه رائش (وسيط) فقط، لكن لأنه يعرف القانون أيضاً، وليس لهذا فحسب، لكن لأنه يعتبر أحد مخالب القسوة التى ينشبها المسئولون الكبار وموظفو العموم المرتشون فى أجساد خلق الله وإجبارهم على دفع الرشوة لكبار المسئولين للحصول على بعض حقوقهم المشروعة، وإذا كان هذا المسخ الرائش يتناول حبوب هضم الرشوة، لكنه لن يحصل على راحة الضمير مطلقاً، بل سوف يقتل ضميره فى النهاية حتى يتخلص من تناول هذه المهدئات التى اخترعتها مصانع الأدوية فى محاولته البائسة لدفع ضميره لهضم الرشوة، التى تعتبر أحد الوجوه البغيضة للقسوة التى يتعرض لها خلق الله من أنظمة الحكم الطاغوطية ومن مسئولى الحكومات، لكن يسرح بى الخيال وأتمنى أن تخترع معاهد أبحاث الدواء حبوب منع القسوة حتى يتناولها كل المسئولين الصغار والكبار قبل استلامهم لمهام وظائفهم, أتمنى من كل معاهد أبحاث الدواء أن تتوصل إلى اختراع حبوب منع القسوة حتى يتناولها كل الوزراء قبل حلف القسم فى تسلمهم لمهام وزاراتهم، ومن الممكن أن يتم اختراع حبوب وكبسولات تمهيدية لمنع كل مسببات القسوة، فتكون هناك كبسولات منع الرشوة وحبوب منع استغلال النفوذ وحقن منع ضرب خلق الله فى أقسام الشرطة، وتكون هناك تحاميل لمنع المحسوبية، وإذا تلطف رب العباد بخلق الله، فسوف تخترع معاهد أبحاث الدواء دواءً شافياً استباقياً لكل رؤساء الدول فى العالم الذين تعانى شعوبهم من قسوتهم، حيث يتناول كل رئيس منهم دواء منع القسوة قبل أن يقسم يمين تسلم السلطة أمام ممثلى شعبه، الذين أتى هو نفسه بهم بالتزوير والتدليس, لقد تغلغلت التكنولوجيا فى كل مناحى الحياة، فهل تستطيع تكنولوجيا الطب اختراع دواء لمنع القسوة؟، فإذا كان هذا الاحتمال بعيد المنال فى المستقبل المنظور، فعلى الأقل يجب على تكنولوجيا الطب اختراع حبوب هضم القسوة حتى تتناولها كل الشعوب المقهورة لهضم قسوة حكامها.