الفقر والغنى.. ليسا قدراً وحسب، فالله خلق ما يكفى الجميع، لكن البعض يطمع فى مال غيره، وهنا ينشأ التفاوت. منذ ما يقرب من عشرين عاماً، عندما انهار "الاتحاد السوفيتى" السابق، أعلن أنصار الرأسمالية انتصارها التاريخى، معتبرين أن أى محاولة للقول بحق الجميع فى حد أدنى من الحياة الكريمة، هى ادعاء بما هو ليس من طبيعة الأشياء. وبعد عشرين عاماً يشهد هؤلاء أنفسهم انهياراً حقيقياً للسياسة التى لا تقوم على العدل، فى أكبر فضيحة تؤكد أن ما بنى على غير العدل مصيره إلى زوال..
الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، ليست وليدة اللحظة، تنبأ بها مفكرون كثر، لكن غرور المال منع أصحابه من رؤيتها، وبعيداً عن الدخول فى تفاصيل تتعلق بالتحليل الاقتصادى لما يحدث، ولأن الرأسمالية تتوطن فى بلاد لا تتوقف عند حد الأزمة، بل تسارع بطرح حلول دون الوقوع فريسة للمهاترات، فقد عقد ما أطلقت عليهم شبكة الـ CNN "أثرياء العالم" محادثات سرية فى جامعة "روكفلر" فى نيويورك، مطلع الشهر الماضى، ووفقاً للشبكة الإخبارية الأشهر، فإن هؤلاء هم أشخاص تتجاوز ثروات الواحد منهم الـ 120مليار دولار، المحادثات استهدفت مناقشة التداعيات المأساوية للأزمة المالية العالمية، وجاءت بناءً على دعوة الملياردير "بيل جيتس" مؤسس شركة" ما يكروسوفت "، فهؤلاء اتفقوا ـ من ضمن ما اتفقوا ـ على تطوير قطاعات "الصحة" والتعليم" .
إذن.. فإن من يقم ثراؤهم المتنامى بناءً على استغلال أغلب سكان العالم، أيقنوا هم أنفسهم بأن واحدة من سبل الخروج من الأزمة، يكون بالنظر "بعين العطف" إلى من جرى استغلالهم مسبقاً أياً كان نوع وطبيعة الاستغلال، ومعتبرين أن "الصحة والتعليم" هما أهم ما يجب النظر إليه، وهم بذلك يؤكدون على قناعة قديمة نادى بها كثيرون، بأنه لا أمان للدول الغنية فى ضوء الفقر المتزايد للدول الأخرى، وهو الاتجاه الذى يحظى بأصوات داخل من مصر من رجال أعمال، وإن كانت قليلة، منذ سنوات قليلة، حيث يرى هؤلاء أن لا أسوار "الكمباوندات" (المجمعات السكنية الفاخرة) ستحمى سكانها من غضبة المطحونين، ولا المال سيحمى أصحابه إذا انفجر الجائعون.
وفى الوقت الذى تذبح فيه الأزمة المالية الفقير قبل الغنى ـ فيما الغنى كان قد استفاد من الازدهار فى حين لم يستفد الفقراء قبلاً ولا آنياً، نجد تصريحاً للسيد "جمال مبارك" أمين لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، يعنى أحد صناع سياسات الحزب "الحاكم "، فى حوار على الشبكة نفسها CNN، وفى اليوم نفسه الذى تنشر فيه عن محاولات أثرياء العالم لاحتواء آثار الأزمة على من لا يستطيعون مواجهتها، يقول فيه إن "التوزيع غير العادل للثروة هو أفضل من التوزيع العادل للبؤس" !، البؤس هو بؤس.. ببساطة، لا يعرفه إلا من يكابده، وغير العدل لا يمكن أن يكون عدلاً أبداً.. هذا ضد المنطق.. وضد الواقع.
التصريح المؤلم، يأتى فى وقت، يتلهف فيه الناس لأخبار تطمئنهم، وتؤكد التصريحات "الخيالية" للحكومة، بأن مصر لم تتأثر بالأزمة العالمية وأن اقتصادنا حديد!، التصريح قال بأن "ثمار الإصلاح الاقتصادى وصلت خلال الأعوام الماضية إلى شرائح دنيا لم تكن تستفيد منها من قبل صحيح .. لكن العوز وصل أيضاً إلى شرائح لم تعرفه من قبل، ويبدو أن الحزب الذى يضع سياسات البلاد، ليس فيه من يعد تقارير عن فئات كاملة أصبحت تنام دون عشاء، فى شعب كان يضرب أفراده المثل حتى قريب عن أن الحياة فيها قدر من الرحمة قائلين، "ماحدش بيبات من غير عشا"، المصريون تغيرت ثقافتهم، فقد أصبحوا متأكدين من أن الكثيرين يبيتون دون عشاء، وأن كثيرا من الأسر تكتفى الآن بوجبتين فى اليوم، وهو ما يعتبر ترفاً لغيرها ممن يطمعون فى وجبة واحدة يومياً، لم تعد تحتوى بالضرورة على "العيش الحاف"، لأن هذا أيضاً لم يعد من مسلمات ما يحصل عليه المصرى. الحكومة تؤمن الإصلاح الاقتصادى، لكن لمن ؟ الحكومة تخلى عشوائيات القاهرة لأضرارها العديدة، لكن من يدفع الثمن ؟. فى مصر هناك من "بيبات من غير عشا" فعن أى إصلاح ٍ تتحدثون ؟