اتفق كل النقاد على أن الرواية تتخذ لنفسها ألف وجه وتتشكل تحت ألف شكل وليس الاختلاف فى الأشكال والأوجه إلا أحد تجليات الاختلافات بين كتاب الرواية أنفسهم، والرواية الفلسطينية تخضع بالتأكيد لهذا المنظور.
فبعد غسان كنفانى الذى قتله الموساد الإسرائيلى عام 1972عندما كان عمره 36 عاماً بتفجير سيارته فى منطقة الحازمية قرب بيروت، حيث كان "غسان" عضو المكتب السياسى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد "غسان" استمرت الرواية الفلسطينية فى التدفق على يد كتاب يتميزون بالموهبة والدأب والولع الشديد بالدفاع عن فلسطين مثل يحيى يخلف ورشاد أبو شاور وغيرهما.
لكن الاختلاف فى الأشكال والأوجه فى الرواية الفلسطينية يتجسد فى اختلاف يحيى يخلف عن رشاد أبو شاور، فيحيى يقول عن نفسه " نحن جيل الثورة والكفاح المسلّح لكن الآن خيارات المقاومة عديدة، وكل منّا يقاوم على طريقته، ويمكن المزج بين كل أشكال المقاومة مثل السلاح، والانتفاضة، والعمل السياسى، وبعد أوسلو كانت هناك أسئلة كثيرة أنا ومعظم المثقفين مثل.. و.. ورشاد أبو شاور، أخذنا موقفا ضد أوسلو، وكتبنا ضد أوسلو ولكن مع فرصة العودة إلى الأرض لم يتردد أى منّا فى العودة، وعاد أكثر من 250 ألف فلسطينى، وهذا مكسب..اتفاق أوسلو أصبح نجاة لنا".
فيرد عليه رشاد أبو شاور قائلاً "لقد تمّ التخلّى عن الكفاح المسلّح، وكافة أشكال المقاومة الداعمة من قبل (جماعة أوسلو)، الذين ما عاد لهم سوى خيار واحد، يعلنه أركان هذه السلطة يوميّا، من السيد محمود عباس رئيسها، حتى سلام فياض رئيس وزرائها، مرورا بمفاوضيها المزمنين أحمد قريع وصائب عريقات وياسر عبد ربه، ويختفى الخلاف فى المواقف السياسية ليتوحد فى الرواية الفلسطينية، وعندما كنت أتشرف بالانتماء لمنظمة التحرير الفلسطينية وجمعنى العمل بالإعلام الموحد واتحاد الكتاب الفلسطينى بيحيى يخلف ورشاد أبو شاور لم أكن أسمح لنفسى بالتدخل بين الأشقاء الفلسطينيين فى اختلافاتهم التنظيمية والسياسية".
وكل ما يعنينى هنا الآن هو تقديم رواية "ماء السماء" التى وصلتنى منذ يومين فقط، مع أنها صدرت فى بيروت منذ عام تقريبا، حيث كانت الرواية حريصة على تثبيت المكان والحياة الاجتماعية، التى كان يحتضنها الروائى بحنان فى ذاكرة أجيال اللاجئين المتمسكة بحق العودة إلى تراب فلسطين، وتجلياته الطبيعية والإنسانية، حيث "ماء السماء" هو اسم الطفلة التى ولدت فى زمن النكبة وتخلّى عنها والداها المجهولان لحظة احتلال بلدة "سمخ" على بحيرة طبرية التى هى مسقط رأس يحيى يخلف نفسه، فوجدها "أبو حامد" فى لفة من قماش تحت شجرة، فحملها معه إلى زوجته وتبنياها وسمّياها "ماء السماء"، حيث إن اسم ماء السماء يختلف عن اسم المطر، فالمطر يعذب هطوله ساكنى الخيام من اللاجئين "أما ماء السماء الملىء بالرحمة والعدل، والذى سوف ينزل من السماء السابعة ذات يوم، فهو ماء مختلف"، ويقدم يحيى فى روايته لوحة روائية عامرة بالحركة والحياة والناس، تتناول مرحلة الضياع "ضياع الوطن بما يعنيه من هموم وشقاء ولجوء"، وضياع الكرامة إذ لا كرامة خارج الوطن، وصولا إلى بدء الثورة فحملت الطفلة الصغيرة مجهولة النسب اسم "ماء السماء" فى تجسيد للنكبة التى لا أب لها ولا أمّ، وحين يعود اللاجئ إلى سلاحه، وحين تتوحد الجهود يكون ماء السماء دلالة رضا وتوفيق من الله للمساعى السائرة للتحرير.
وهكذا تنتهى رسالة الرواية، إن كان لأى رواية رسالة ما، وحتى تصل الرواية لهذه النهاية، فقد قدم الروائى مجموعة من الشخصيات والأحداث موغلاً فى دوافعها النفسية وطموحاتها، وموغلا أكثر فى توصيف بؤس المخيم فى مرارة شديدة، وقد حاول "يخلف" أن يجسد الوطن الفلسطينى بأكمله فى قريته سمخ - مسقط رأسه - التى تكون الحياة موحشة بعيداً عنها، حيث يكون الخوف والانتظار منذ الصفحة الأولى من الرواية، لتتحول فى النهاية إلى فرح وآمال ينتظرهما الجميع,
وإذا كان غسان كنفانى قد أنهى روايته "أم سعد" قائلاً: "لقد برعمت الدالية يا ابن العم" فى دلالة على نمو الثورة الفلسطينية، فإن يحيى يخلف يصل إلى الفرح والآمال بهطول ماء السماء بفعل الجهود والإصرار، وبفعل واقع البؤس الذى أدى إلى زيادة الوعى والتشخيص والاهتمام، حيث قارن "يخلف" بين سمخ/ الوطن والمخيم، والحياة هناك فى الوطن والحياة هنا فى المخيم، و"ماء السماء" الطفلة الضائعة هناك والطفلة السائرة فى طريق العودة والثورة هنا فقد "كان ذلك فى زمن البلاد، حيث ولّى ذلك الزمن وصار الذيب أبو فروة لاجئا مع اللاجئين"، حيث نجح يحيى يخلف فى ترصد لحظات الاقتلاع الدموية العنيفة من سمخ/الوطن، على بحيرة طبرية، إلى سنوات اللجوء المرة فى مخيمات التشرد، وإلى مذلة وكالة الغوث أملا فى الخلاص النهائى بنزول "ماء السماء" على أرض فلسطين رغما عن أنف ناتانياهو وكل القتلة من الصهاينة، وحتى لو أخفى بوش وجهه القبيح تحت قناع وجه أوباما نفسه الذى أتى إلى القاهرة فى (جسد بوش يرتدى فروة الحمل)، وتبشيره بحل الدولتين الذى لن يكون أبدا بديلا عن الحل العادل للصراع وصولا إلى السلام العادل والشامل، حيث ينزل ماء السماء على كل أرض العرب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة