ثلاثة تزينت بهم جوائز الدولة هذا العام، بهاء طاهر شاعر الرواية العربية بامتياز، ويوسف القعيد أحد الكبار الذين أخلصوا لها، ونحت لإبداعه عالما خاصا تفرد به، والمؤرخ قاسم عبده قاسم الذى يقدم لنا حواديت التاريخ برشاقة، يبدو منها أنه قصة روائية.
لم ينكفئ الثلاثة على مشروعهم الإبداعى فحسب، وإنما انغمسوا فى قضايا وطنهم قولا وفعلا، بالدرجة التى جعلتهم فى مصاف المعارضين الكبار، ومع إيمانهم بدور الكلمة، ظلوا على عهدهم فى التعامل الأمين معها، ويجمع الثلاثة أنهم من جيل الستينيات الذى يتصدر المشهد الإبداعى فى مصر الآن، ولهم كل الاحترام، لأنهم ظلوا على مواقفهم ومبادئهم ثابتين، وفى ذلك قيمة أعظم لحصولهم على الجائزة، وللذين رأوا أحقيتهم بها يتصدر بهاء عالم الراوية العربية بلغته الشاعرية الشفافة حزنا وجمالا، والتى تسكن القلب والعقل فى آن واحد، وجعل من أحداثنا التاريخية الكبرى محطات لعالمه الروائى، كما فعل فى عمليه المدهشين «الحب فى المنفى»، و«واحة الغروب»، كتب بهاء فى «الحب فى المنفى» عن الانكسارات الهائلة التى نالت كل من عاش حلم الاستقلال الوطنى مع ثورة يوليو، وفى «واحة الغروب» لمس نفس حالة الانكسار، ولكن مع الذين عاشوا حلم الثورة العرابية، وكأن بهاء يريد أن يقول لنا إن تاريخنا روايته ممتدة من زاوية أننا لم نعثر من خلاله على طريقنا بعد.
مشروع بهاء الروائى هو مرآة لتاريخنا الذى يشمل النصر والهزيمة، الحلم والانكسار، من خانوا، ومن باعوا، ثم جلسوا فى حجر الوطن ليحصدوا ثمن خيانتهم، وحين تقرأ جملة واحدة فى روايات بهاء عن هؤلاء، تشعر أن أديبنا الكبير لم يكتبها إلا بعصارة قلبه، وبتوحد مع الحالة التى عليها أبطاله، ذهبت جائزة مبارك إلى بهاء لتسجل نصراً مستحقا للجائزة وصاحبها.
فى عالم الرواية والروائيين يأتى يوسف القعيد الذى حصل على جائزة الدولة التقديرية، كنموذج للكاتب القدير الذى اهتم ببيئته الريفية التى خرج منها، ولم ينفصل عنها أبداً، راصداً كل التحولات الاجتماعية والسياسية فيها، هو ابن قرية الضهرية بمحافظة البحيرة التى تقف خلف كل إبداعاته، ومنها يأتى مخزونه الجميل فى حكاياته الروائية، لم يتخل القعيد عن حلمه، ومنه وبه كان له الفضل روائيا فى إطلاق صيحة التحذير مبكرا من وهم الحلم الأمريكى، فى روايته «يحدث فى مصر الآن»، ونبوءة إعادة الفلاح المصرى البسيط إلى زمن القهر فى روايته «الحرب فى بر مصر»، وبأسلوب واقعى مباشر ودون فذلكة روائية، كتب القعيد الروايتين، كما كتب رواياته الأخرى لتدخل فى صميم وصدارة المشهد الروائى للجيل الذى عاش وهج وخفوت حلم ثورة يوليو 1952، وبقى القعيد مؤمنا بقيمة ونبل هذا الحلم، ومن خلاله لا يترك فرصة إلا ويذكرنا بلحظات مجده التاريخية، وكأنه يأخذ على عاتقه مهمة تبصير الأجيال الجديدة بأن فى تاريخهم ما يستحق الفخر والتقدير والإيمان.
وفى محطة التأريخ يظل الدكتور قاسم عبده قاسم، واحدا من رجاله الكبار، الذين يتمتعون بنفاذ البصيرة والرؤية التاريخية الموسوعية، التى لا تقف عند استحضار وقائع التاريخ بأسلوب سردى وفقط، وإنما يتعامل معها وكأنها حكاية ممتدة، ولابد أن نقف أمامها لأخذ العبرة من أجل تقدمنا، لم يكتف قاسم بهذه الرؤية على أوراقه، وإنما جرب على الأرض بالانغماس فى العمل الحزبى لفترة، لكنه تركه بعد أن وجد المسافة كبيرة بين ما تقوله وما تفعله بتسييد هذه الرؤية، رأى فى الظاهر بيبرس وقطز وصلاح الدين الأيوبى، أنهم نفذوا إلى وجدان أمتهم، لأنهم فهموا وظيفتهم التاريخية فى قيادة أمتهم، وذلك بعدم الانكفاء على الداخل، قدم الدكتور قاسم دراسات رائدة فى الحروب الصليبية، منبها على ضرورة فهمها حتى نعى كيفية مواجهة إسرائيل، مدرسة قاسم فى كتابة التاريخ تعزز من قناعة أنه من الواجب علينا ألا نقرأ التاريخ للمتعة وفقط، وإنما من أجل فهمه، جاءت الجائزة لقاسم متأخرة لكنها جاءت، فتحية له ولبهاء والقعيد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة