متعة فى المتابعة، جرأة فى النقد، براعة فى المنازلة، ودروس مستفادة فى النتيجة، هذه هى معارك المثقفين الجميلة، التى إن لم تكوَ بنارها فبالتأكيد سيصيبك من نورها نصيب، ما لم تنزلق إلى مستوى منحدر من التلميحات والتجريح المبتذل وهنا تتحول إلى "ردح مصاطب" تنال من طرفى المعركة، والأشرف عادة هو من يعف لسانه، ويحفظ مكانته عن الانزلاق أو التدنى.
آخر هذه المعارك التى كنت أتابعها بشغف ما جرى فى مسابقة "39" التى تقام بمناسبة اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وتنظمها مؤسسة "هاى فستيفال" وهى من أكبر المؤسسات الإنجليزية التى ترعى وتقيم المهرجانات الأدبية، والغرض من إقامة هذه المسابقة هو اختيار 39 أديبا شابا من العالم العربى، يتم بعدها استضافتهم فى بيروت لحضور فعاليات المهرجان، مع وعد بنشر أعمالهم وترجمتها، ومن هناك تكمن أهمية المسابقة، فالكتاب المختارون سوف يكونون وجها مشرقا للثقافة العربية الشابة، وبالتالى سيضمنون بالتأكيد أن يسلط عليهم وعلى أعمالهم الضوء خاصة أنهم فى مقتبل العمر، أى أن هذه المسابقة ستختصر أجيالا كبيرة للقفز بإنتاج الشباب العربى نحو العالمية، بعد أن كانت حكرا على شيوخ الأدب، وبارونات التربيطات، وهذا غرض لا يملك المرء أمامه إلا أن ينحنى احتراما وتقديرا، لكن يا فرحة ما تمت!
من الأسباب التى جعلت اهتمامى بهذه المسابقة يتزايد هو اختيار الأديب والروائى المصرى الشهير "علاء الأسوانى" لرئاسة لجنة تحكيم هذه المسابقة، فاختيار أديب مصرى لرئاسة لجنة تحكيم عربية أمر جميل فى زمن بات الكيل فيه لمصر ومكانتها الثقافة، كما لو كان فريضة واجبة على بعض المثقفين العرب، وما إن بدأت الأخبار تتوالى حتى توقعت أن يأتى ما يعكر صفوها، وهو ما تم بالفعل.
الأسوانى اشترط أن يتم الإعلان عن الجائزة والترشح إليها بشفافية، ليتحقق مبدأ تكافؤ الفرص، طالبا أن يتم الإعلان عن المسابقة فى الجرائد الرسمية حتى يعرفها القاصى والدانى، وهذا يزيد من فاعليتها ورواجها وشهرتها، والأهم من هذا كله هو أنه يتاح لكل المثقفين والمبدعين أن يشاركوا فيها، لكن حسب ما ذكر الأسوانى فى مقاله بجريدة الشروق أول أمس، الثلاثاء، فإن القائمين على الجائزة لم ينفذوا ما اتفقوا معه بشأنه، ولم يعلنوا عن الجائزة بالشكل الذى سبق وتوصلوا إليه، والأدهى من هذا أنه لاحظ أن هناك أسماء بعينها سوف يتم ترشيحها للجائزة، بناء على معرفتهم المسبقة بأحد أعضاء لجنة التحكيم، وما عليه إلا "التصديق" على النتائج، والتسليم للاختيارات، لكن هذا ما رفضه "الأسوانى" بالطبع، بعد أن كشف القائمون على الجائزة عن نيتهم، واتضح للأسوانى أنهم يريدون أن يكون نصف الأعداد الفائزة من المعروفين والنصف الآخر من المغمورين حتى يضمنوا النجاح بهذه الجائزة!! فما كان منه إلا أنه قدم استقالته، مفجرا بها مفاجأة مدوية.
مثلت استقالة الأسوانى من لجنة التحكيم هزة كبيرة للجائزة التى مازالت فى المهد بالنسبة للوطن العربى، مما جعل أحد الكتاب العرب "الشاعر عبده وازن" يهاجمه مهاجمة ضارية، متهما إياه بأنه يريد "فرقعة إعلامية" وأنه كان يريد بقبوله لرئاسة لجنة التحكيم، ثم تقديم استقالته ليكتسب شهرة إضافية، وألمح إلى أن "كل شىء انكشفن وبان" فالأسوانى أيقن من أن نجوميته ستخفت فى الاحتفال، لأن الكتاب العرب الشباب سيخطفون منه هذه النجومية، وكل هذه الادعاءات بها الكثير من المغالطات، فلو كان الأمر كذلك فنجومية "الأسوانى" كانت ستتأكد إذا ما احتوى المهرجان على أسماء لامعة يكون هو صاحب الفضل عليها ومكتشفها ومانحها فرصتها للشهرة والنجومية، والغريب أن هذا الكاتب العربى الكبير الذى أحبه وأحترمه بدا فى مقاله أنه غير عابئ باستقالة الأسوانى، وأن إدارة الجائزة ليست فى حاجة للإعلان، وقد تقدم لها أربعون مبدعا من مصر وحدها، وعد هذا دليلا على شهرة الجائزة، لكن ما فات عليه هو أن هذا العدد الكبير بالنسبة له، يعد هزيلا جدا إذا ما حسبنا مثلا عدد المبدعين المصريين المتقدمين لجائزة قصور الثقافة مثلا!! كما فات عليه أن جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية ومبارك وهى أهم جوائز على الإطلاق من حيث القيمة أو الشهرة، يتم الإعلان عنها فى الجرائد الحكومية واسعة الانتشار لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص المفترض.
يقال إن العقد شريعة المتعاقدين، وما دام الأسوانى اشترط قبل قبوله لمهمة "التحكيم" أن يتم الإعلان عنها بالشكل المناسب، فلا حرج إلا على من أجل بشروط الاتفاق، وكنت آمل أن تكون استقالة الأسوانى الشجاعة آخر فصول هذه المعركة التى نالت من الطرفين، لكنى أعتقد أن زيادة الجولات فى هذه المعركة لن يزيد بالفعل إلا من شهرة الأسوانى لأنه كان شجاعا فى موقفه، حادا فى رده، الذى تأكد منه رغبته الحقيقة فى أن تكون الجائزة بالمنافسة لا بالاختيار، وأن يكون هو رئيسا للجنة المحكمين لا للجنة للمتواطئين، فإن كرست كل الجوائز العربية لاختيار الكتاب المعروفين والمشهورين بالفعل، فلن نجد بعد أعوام قليلة كتابا جدد، ولماتت الثقافة العربية وطوى أثرها، وأعتقد أن وجهة نظر الأسوانى صحيحة وشريفة مائة بالمائة، وأنه لو فعل غير هذا لوقع فى خطيئة أدبية لا تغتفر، لكن على أية حال لا يسعنى إلا أن أترنم مع طرفة ابن العبد قائلا "ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا **** ويأتيك بالأخبار من لم تزود" وإلى أن تبدى الأيام ما تبدى، للأسوانى تحية واجبة على موقفه النبيل.
وائل السمرى
مثلت استقالتة مفاجأة مدوية
روعة "الأسوانى" ومتاهة مسابقة "39"
الخميس، 02 يوليو 2009 12:56 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة