أظن أنه ما مرّ وقت على مصر يشبه وقتنا هذا، ولا أدرك عقلاء القاهرة ومثقفوها هذه الحيرة وتلك البلبلة وذاك التوتر، فالكل مترقب ومنتظر، والكل لا يستطيع أن يقطع بيقين، والكل لا يملك الإجابة الشافية عن السؤال الأكثر إلحاحاً فى قاهرة هذه الأيام.
أما أنا فقد مكثت أسبوعين فى عاصمة المعز، هما مدة الإجازة التى قضيتها فى بلدى أبحث وأفتش وأسأل عما سيجرى قريباً فى العاصمة الأكثر شهرة وحضوراً فى عالمنا العربى..
٭ ما مستقبل الحكم فى مصر؟
هذا هو السؤال الذى لا يجد المصريون له إجابة حاسمة، والذى ينهب منهم كثيراً من الوقت والبال، خصوصاً وأن الإشارات والتسريبات المتناقضة الواردة من شخصيات نافذة فى السلطة، مثل حل مجلس الشعب، لا تجعل المرء يطمئن إلى إجابة مرضية، ولا تدفع الإنسان إلى الارتكان إلى رأى مستقر!
هكذا رأيت القاهرة التى فيها ولدت وتعلمت، ففرحت وحزنت وطمحت كثيراً ونلت قليلاً، أقول هكذا رأيت القاهرة.. شاردة حائرة ترقب وتأمل وتنتظر! المدهش أن كبار مثقفينا ومبدعينا وصحفيينا وصغارهم لم يتوقفوا عن طرح السؤال الحرج والشائك: مَنْ سيؤول له حكم مصر إذا لعبت المقادير لعبتها وأصبح منصب الرئيس شاغراً؟ وهو أمر ليس بمستبعد لظروف كثيرة (أفتح هذا القوس لأذكرك بأن الرئيس مبارك - أطال الله عمره - تجاوز عامه الواحد والثمانين فى 4 مايو الماضى وأنه يحكم منذ أكتوبر 1981 حتى الآن)!
الكلام كثير والآراء مشوشة خصوصاً أن نغمة التوريث زاد رنينها فى الشهور الأخيرة، بعد أن بدأت خافتة خجولة قبل سبع سنوات تقريباً، فالذين يؤكدون أن جمال مبارك هو الرئيس القادم لمصر ينطلقون من أمنيات وإحباطات، الأمنيات تتكئ على رغبتهم فى رؤية رئيس مدنى لأول مرة منذ 1952 حتى لو كان صعوده إلى المنصب الأهم فى البلاد تم بمعرفة وتأييد وتجهيز رافعة جبارة تتمثل فى وجود أبيه على رأس السلطة!
أما الإحباطات التى تدفع نفراً من الناس إلى تأكيد جلوس جمال مبارك على مقعد الحكم فى مصر قريباً فتعود إلى أن هؤلاء الناس لا يرون أية إمكانية للتغيير الحقيقى فى مصر، وبالتالى فالابن سيرث الأب من دون مقاومة تذكر لأنها رغبة الاثنين!
هناك أيضاً من يقسمون على أن حكم مصر لن يصبح من نصيب جمال مبارك بأى حال من الأحوال، وهم ينطلقون فى هذا القسم من عدة أمور: أولها أن المؤسسة العسكرية - وهى ذات سمعة طيبة لدى الشعب - لن تقبل أن يتمتع بالمنصب الأول رجل من خارجها وهى التى تحكم البلاد منذ 1952! والثانى أن الغالبية العظمى من المصريين يكابدون أوضاعاً اقتصادية خانقة، ومن ثم لن تقبل هذه الغالبية أن تتواصل السياسات إياها التى جلبت لهم الغم والفقر والحرمان، وهو أمر محتم - كما يقولون - إذا سقطت تفاحة السلطة فى فم الوريث!
يذهب هؤلاء أيضاً فى تأكيد تصورهم أن النخبة المصرية فى مجملها - وهى كبيرة العدد وذات تأثير فعال - لن تسمح بأن يحدث فى مصر - وهى الدولة العربية الكبرى- ما حدث فى دول عربية أخرى حيث تسلم الابن مقاليد السلطة فور رحيل الأب مباشرة وكأن مصر ليس بها أحزاب ومؤسسات وهيئات تحول دون حدوث هذا الأمر الذى يهين كفاح الشعب المصرى كما يظنون!
المثير أن أولئك وهؤلاء، أى الذين يعتقدون ويرغبون فى رؤية جمال رئيساً لمصر، والذين لا يعتقدون ولا يرغبون.. أقول إنهم جميعاً لا يملكون اليقين التام حتى وإن حاولوا إظهار ذلك!
لاحظ أننى لم أتحدث عن آراء البسطاء المصريين وهم بالملايين، وإن كنت قد التقيت كثيراً منهم فى المقاهى الشعبية أو بين سائقى «التاكسى»، وقد اختلفت آراؤهم أيضاً حول الإجابة عن السؤال الشائك، وإن كان معظمهم لا يحبذ استمرار تلك السياسات التى سرقت منهم الأمل فى مستقبل أفضل كما قال لى حرفياً مهندس زراعى اضطر للعمل سائقاً لسيارة أجرة!
لاريب فى أن المستقبل القريب غائم وغامق وهو أمر لم يحدث فى مصر طوال القرنين الماضيين على الأقل، فطوال العصر الملكى كان المصريون يدركون أن السلطة من نصيب ابن الملك عندما يرحل صاحب الجلالة، وفى العهد الجمهورى، كان هناك باستمرار نائب لرئيس الجمهورية يتولى الحكم عند غياب الرئيس، أما حالياً فلا ملك ولا نائب ولا يحزنون!
إن قلب مصر ينبض بقوة الآن وهو فى حالة ترقب ليس لها مثيل، فالكل يرصد وينتظر -المؤيدون والمعارضون، الحالمون واليائسون، الحاذقون والبلداء - وأظن أن القاهرة ستشهد قريباً أحداثاً غريبة وعجيبة ومثيرة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة