نقل رفات شعب بأكمله إلى الصحراء فى هذا التوقيت، يعنى إهدارا للذاكرة والعمران والتاريخ، ويعنى أيضا ازدهارا فى سوق الحديد والأسمنت، يمكن النخبة الاقتصادية «الحاكمة» من مصائر الناس، أنت أمام خيال «حاكم» لا يعرف الناس، ولا يهمه مليون ونصف المليون مواطن يعيشون فى مقابر القاهرة، بينهم 1150 أسرة تستأجر أحواشا، وتفتقد 3088 أسرة مكانا يصلح لإعداد الطعام، وتشترك 1233 أسرة فى حمامات مشتركة، والطريف أن هذا الخيال يسعى إلى تحويل مقابر البساتين والتونسى والإمام الشافعى وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثى إلى حدائق عامة، الحكومة تتحدث هذه الأيام عن الخضرة، وتحلم بقاهرة أخرى سمتها القاهرة 2050 لكى يجد القائمون على التنسيق الحضارى والتخطيط العمرانى شيئا يشغلون به وقتهم.
المهندس أحمد المغربى وزير الإسكان وتقسيم الأراضى قال لفاروق جويدة «أهرام الجمعة» إن الـ1600 فدان ستتحول إلى حدائق عامة، وأنه سيتم تسليم مدافن بديلة للمواطنين فى 6 أكتوبر بنفس مساحات المدافن التى يملكونها فى القاهرة، بمعنى - وهذا كلامه - إذا كان المدفن على مساحة ألف متر ستقدم الحكومة مدفنا على نفس المساحة مجهزا تجهيزا كاملا ونسى أن يقول سخن وبارد وتشطيب لوكس، وقال أيضا إن الحكومة ستصدر قرارا بمنع الدفن فى المدافن القديمة لمدة خمس سنوات، وإنه يجرى الآن إنشاء عدد كبير من المدافن «لأن فيه أزمة مدافن»، وطمأن الناس على المدافن التاريخية التى ستقوم هيئة الآثار بإعداد حصر لها. ولا أدرى كيف سيتم هذا، وكيف سيتم التعامل مع المليون ونصف المليون بنى آدم «يدعى المغربى أنهم آلاف فقط»، وهل الحكومة كريمة لدرجة بناء مساكن آدمية لهم، وهل ستقوم بالإزالة بدون التفاوض مع الموتى وأبنائهم وأحفادهم الذين لا يحبون 6 أكتوبر، وعلى افتراض أن الحدائق الموعودة ستحاصر القاهرة بـ1600 فدان، فمن أين ستأتى الحكومة بالماء الكافى «على حد تعبير جويدة».
رجال الدين أجازوا الدفن بالطبع «بشرط تحلل الجثمان»، ورجال العمارة تحدثوا عن الوجه الحضارى ولا أعرف حتى الآن معنى للوجه الحضارى ولم يقل لنا أحد.. ماذا سنفعل بالأحياء الذين يعيشون فى حماية الموتى.. بعد أن غدرت حكومة رجال الأعمال والحديد المسلح.. بهم.
أنا شخصيا ضد فكرة حديقة الحيوان، لأنك من خلالها تجبر الحيوان أن يترك عالمه وتقوم بحبسه لكى تلتقط الصور مع أطفالك جواره، أنت تحاصره بالمبانى الشاهقة وتنزع منه رغبته فى اللعب والتواصل مع جنسه، وتدرب أشخاصا لكى يظل محاصرا، وغير سعيد، ومع هذا ظلت حديقة الحيوان بالجيزة منذ 1891 مكانا حميميا لذكريات طفولة المصريين، رغم قصور القائمين عليها وتقصيرهم فى حق المواطنين قبل الحيوانات.
فى الأيام الفائتة قيل إن وزارة الزراعة ووزارة الإسكان اتفقتا على تخصيص 400 فدان فى 6 أكتوبر لتكون مقرا للحديقة، وقيل أيضا إنه سيتم استثمار الأرض الحالية فى مشاريع عقارية ربما تحل مشاكل الحكومة المالية، ثم نفى وزير الزراعة هذا الكلام فى الصحف كلها، وقال إنها كانت مجرد فكرة وأن المقر القديم كان سيتحول إلى حديقة نباتية «لا تعرف كيف؟».
هذه الفكرة التى تم التراجع عنها سيتم تنفيذها عاجلا أو آجلا، مثل فكرة نقل المقابر بالضبط، ولأن قادة الرأى مشغولون.. بالظهور فى التليفزيون والاستهتار بالأشياء الرمزية «العظيمة» فى حياة المصريين، ولأن «الخيال» الحاكم يصر على تجريف الوجدان ومحاصرة الأحلام البسيطة «وتسعير» البهجة، ونقل الموتى والحيوانات فى محافظة جديدة يسكن فيها رئيس الوزراء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة