أمس مرت الذكرى الأولى لرحيل شاعر فلسطين الأكبر «محمود درويش» فاحتفل بهذه الذكرى المحبون، منهم من أضاء شمعة، ومنهم من أهدر دمعة، ومنهم من قرأ قصيدة، ومنهم من كتب مقالا، ومنهم من ترنم بأغنية، الجميع اشتركوا فى تجديد ذكرى الغياب، رغم أن التأكيد على الحضور كان أولى وأجدى وأوقع، عام مر على رحيل «الدرويش» فما انقطع ذكره ولا صمت شعره، أكاد أراه مبتسما يقول: جافيتكم لأعرفكم وأعرفنى، وغبت عنكم لأرانى فى قلوبكم ملكا متسامحا وعطوفا وحانيا ومزهوا ومترفعا وصافيا، أنا الطفل النزق الخاشع، تغربت عن حضن أمى لأسكن ما بين ضلوعكم، وتركت يد حبيبتى لأنام فى جفونكم، فإن قرأتم شعرى حييت وإن تذكرتمونى جئت، وإن عبستم فى وجهى انصرفت».
فلنتذكر درويش إذن، ولنبتسم فى وجهه مكتشفين كيف كان يحب الحياة ويغنى لها، مجددين بذلك حياته التى لم يجرؤ الموت على أن يسلبه إياها، ومن بين قصائد درويش الكثيرة، تقف قصيدة «يطير الحمام» كعروس قصائده التى كتبها للحب والحياة والخصب والشجن، تكاد هذه القصيدة أن تكون القصيدة الوحيدة التى لم يخلط فيها رمز الأنثى برمز الوطن، وهو الذى ظلمناه كثيرا حينما ألصقنا بكل أنثى يعشقها ويكتب فيها شعره الرقراق صفة الوطن وشكله وتضاريسه، لذلك كان «درويش» حادا فى الإعلان عن أن الأنثى التى يغنى لها فى «يطير الحمام» هى أنثى حقيقية من لحم ودم، يشتهيها وتشتهيه، يجافيها وتصطفيه، يلجأ إليها وتلوذ به، يعانقها ويجلس على ركبتيها، وتعانقه فتنقذ حلمه من شوكة حاسدة.
«أعدى لى الأرض كى أستريح فأنى أحبك حتى التعب» هكذا يصرخ درويش مناديا حبيبته الوردية كالرخام، والصافية كالزجاج، والحانية كالياسمين، والبريئة كيوسف، والصابرة كأيوب، والمشتهاة كامرأة أوروبا، نادها فسمعت نداءه، وغنى لها فدانت له، ومال إليها فعانقته، متحملة روحه المتمردة الحرون، قائلة «أنا وحبيبى صوتان فى شفةٍ واحدة» لتعبر عن أقصى درجات الاندماج والتمازج والتماهى، رغم أنها تعرف أنها له لوحده بينما هو فقط «لنجمته الشاردة».
إن شئت قل إن «يطير الحمام» أغنية درامية، أو سيناريو لعلاقة الشاعر بالأنثى، أو حالة وجد صوفية يرى الشاعر فيها الحياة متجسدة فى أنثى، يحفظ تفاصيلها وأنفاسها وعبيرها، يراها ربة الخصب والشعر والحب والأغنيات، يناديها قائلا: كم مرّةً تستطيعين أن تولدى فى منامى/ وكم مرّةً تستطيعين أن تقتلينى لأصرخ/ إنى أحبّك كى تستريحى».
صوتان فى شفة واحدة، هكذا يكون الحب الذى يرى فيه الحبيب حبيبته وكأنها هو وكأنه هى، يستلهم «درويش» الموروث الصوفى ليؤكد أن الحبيبة أساس الوجود ودليل جمال وعبقريته، وكأنه يردد نفس المعنى الذى فاض به الحلاج حينما قال: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا/ فإذا أبصرتنى أبصرته وإذا أبصرتنى أبصرتنا» نادرة هى القصائد التى كتبها درويش للأنثى فحسب لكن بمقياس الشعر إن لم يكتب درويش إلا «يطير الحمام» لكفته، لنرمى له وردة ونحييه بابتسامة ونقبله بقصيدة، بعد أن أدخلنا جنة عرضها السموات والحب.