كأننا لم تعد لنا أية قضية نهتم بها. تركنا الإصلاح والديمقراطية وتلوث المياه والفقر والجهل والمرض، وتفرغنا لمصارعة المتشاتمين . أينما نظرت سوف ترى دعاوى تكفير وفتاوى تخوين، لو أخذناها بجدية ما تبقى شخص يصلح ولا فكرة تنفع.. دعاوى لإسقاط الجنسية، وفتاوى لسحب الإسلام، ومطالب بإلغاء شخص.. لايبدو أصحابها جادين، لكنهم يقدمون ذلك على سبيل التسلية، وجذب أنظار الجمهور المتعطش لمكفرة يشبع فيها تصفيق أو تصفير. وكل طرف يبدأ وهدفه الإجهاز على خصمه.
وليس أفضل من قضية فيها تكفير أو شذوذ أو خيانة، أما قضايا الفقر وتلوث المياه، فإنها تفتقد الجاذبية، و«خدمة ما بعد الشتائم». ربما هى أعراض تأخر الديمقراطية واتساع العشوائية، واليأس من الإصلاح، الذى استبدله البعض بمصارعة كلامية، ومعارك تبدو كالخلافات. وأصبحنا نرى ديكتاتورات قطاع خاص كل منهم يجلس على كرسى يحمل يقينه فى يده، يختفى وراء الدين أو الوطنية ولا مانع من بعض الحرية، والديمقراطية. والليبرالية إذا لزم الأمر.
بعض المحامين اختلفوا حول الانتخابات، فرفع بعضهم دعوى يطالب فيها بإسقاط الجنسية عن سامح عاشور. وعندما اشتد الخلاف حول منح جائزة الدولة لسيد القمنى سارع البعض إلى تكفيره والبعض الآخر ليطالب بإسقاط الجنسية عنه.. والتكفير درجات، منه التكفير الخام، أو المغلف ببعض العقلانية والحرية، والحرص على أموال الدولة، حتى لو كانت جوائز الدولة ذهبت لمسئولين ووزراء، وأموال الدولة تضيع أيضا فى القطارات والمستشفيات والأراضى، ونظام الجوائز رسميا وشعبيا مزدوج يقوم على المزاج والاستلطاف.
وفى توقيت قضية القمنى شو، اندلعت قضية تنصر محامية، أو إسلام فتاة، أو خيانة زوجة، قضايا تحمل كل المشهيات، والمعارك، بعد أن فقدت قضية مقتل سوزان تميم بريقها وقدرتها على جذب الأنظار.
لقد رأيت مثقفا جزائريا يقول إن طه حسين هو الذى أحضر الاستعمار الإنجليزى لمصر، ولا المذيع ولا الضيف الآخر اهتما بالتصحيح، لأن العقل يقلل الجاذبية. وقد روى أحد ضيوف البرنامج أنه اتفق مع خصمه فى الرأى، وأثناء الفاصل قال لهما المذيع: إننا لا ندفع لكما من أجل أن تتفقا، بل من أجل أن تختلفا. وبعد الفاصل قال لأحدهما أن زميله يصفه بأنه خائن وكذاب فرد مدافعا وواصفا خصمه بأنه تافه وحشرة وسخنت الحلقة بشتائم الرأى والرأى الآخر، أو «الشتم والشتم الآخر»، وهى الخلطة المريحة، التى نفضلها فى «توك شوهاتنا».
فكرة سحب الجائزة وسحب الجنسية وسحب العقيدة أصبحت أسهل من شكة الدبوس. وإذا كان سيد القمنى رجلا يستفز الإسلاميين فإن التكفير سبقه إلى حلمى سالم، ولحق بحسن حنفى وقبلهما نصر أبوزيد وفرج فودة، ونجيب محفوظ، ومع الاختلاف فى الدرجة والنوع والأفكار، فإن المكفرة لا تفرق بين مفكر ولاعب سيرك. والمكفرون يتباهون بأنهم لم يقرأوا لأى من هؤلاء، والشاب الذى طعن نجيب محفوظ اعترف أنه حاول قتله دون أن يقرأ له حرفا. وقامت الدنيا لأن نصر أبوزيد كتب كلاما يخالف رأى أستاذ، كان بالمصادفة خطيب مسجد نقل المعركة من الجامعة للمسجد، وسلط عليه من لم يقرؤوه، وانتهى بمطاردة نصر وتهجيره.
القمنى يكتب وينشر من عشرين عاما وله معجبون ومكفرون، وأفكاره ليست جديدة، بعضها ورد فى كتابات طه حسين ونصر أبو زيد وحسن حنفى وجواد على وأبكار السقاف.. ومن المفارقات أن القمنى متهم بالتشكيك فى مصادر اليهودية والمسيحية. وبعض الغاضبين عليه لا يترددون فى التشكيك باليهودية والمسيحية، دون أن ينتبهوا إلى أن الديانات أصلها واحد.
مولد يصعب أن تتبين فيه الفرق بين البائع والزبون. ومصارعة على طريقة الاتجاه المعاكس، لن ترى حوارا وإنما ستسمع كلمات «مرتد وكافر، ديماجوجى.. رجعى جاهلى.. استعمارى.. خائن». ويجب أن يكون المتحدث جديا وحاسما يشتم الليبراليين واليساريين، على سبيل الاحتياط فيرد الليبراليون واليساريون شتما وسبا.
من الصعب أن تجد من هو ضد القمنى وضد التكفير، وغير مسموح أن تكون ليبراليا ترفض الإساءة للعقائد. عليك أن تنضم لفريق «أهلى أو زمالك». كافر أو خائن. المهم الاستعراض، القمنى محب للاستعراض، وخصومه أيضا، والفكرة آخر ما يفكرون فيه.. والنتيجة كتب القمنى ارتفع توزيعها، وبرامج «المصارعة الحرة»، ارتفعت نسبة مشاهدتها، والجمهور تسلى. والحكومة والنظام ارتاحوا من الدعوة للإصلاح أو محاسبة المسئولين على التيفود والبطالة والمرض ودمار البنية الأساسية.