فى منتصف التسعينيات انعقد فى القاهرة مؤتمر عن التسويق فى أحد فنادق القاهرة، تصورت أنه ينصب على مناقشة أحدث طرق تسويق المنتجات الغذائية والصناعية، كانت هناك جلسة لافتة عن التسويق السياسى، أثارت اهتمامى، كان المتحدث الرئيسى فيها الدكتور أسامة الغزالى حرب الذى ألقى محاضرة عن التسويق السياسى الذى أصبح علما فى أوروبا والولايات المتحدة، وأهمية التسويق السياسى للأشخاص والسياسات، والحكومات والبرامج، باستخدام الطرق الحديثة، ولم يكن الدكتور حرب يخترع، فقد كنا نعرف أن هناك فرقا دائمة لتسويق الرؤساء والسياسيين.
لفت نظرى أن المؤتمر أعد له جيداً وحضره ممثلو شركات الدعاية والإعلان وخبراؤها، كان يتركز فى الأساس على فكرة التسويق.. تسويق السلع أو الأشخاص، وأشرف على إعداد المؤتمر طارق نور خبير الإعلان والتسويق والدعاية، بخبرته الواسعة، بدت الروابط واضحة بين الشامبو والسياسة أو السمنة وأصول الحكم، ليس فقط لأن «كله عند العرب صابون»، لكن ربما لأن السياسة هى حاصل جمع تسويق وتمثيل جيد.
التسويق يرتبط فى الأساس بالاقتصاد الحر، ومن أسس اقتصاد السوق أن المستهلك يصوت على السلعة بجيبه وماله، وفى «أوروبا والدول المتقدمة»، المواطن يصوت لاختيار من يحكمه بنفس القواعد، حرية الاختيار والترشيح والتغيير، لكنه بدا بعيداً عندنا، نحن نتحدث عن تسويق منتجات واقتصاد حر، بينما السياسة لا علاقة لها بالاقتصاد الحر، والتسويق يتم لمنتج سياسى واحد، رئيس واحد وحكومة واحدة وحزب حاكم واحد.
ظلت فكرة التسويق فى ذهنى، وبدا أنها تنتعش فى بداية الألفية، حيث دخل سياسيون جدد مثل جمال مبارك ومساعدوه ممن تعلموا أو تدربوا فى أمريكا، وعادوا ليتحدثوا عن الإصلاح، وبدا أن أشخاصا مثل محمد كمال أو أحمد عز يتحدثون أو يسوقون أفكاراً عن السياسة لكنها تدور فى الحزب الواحد وتسوق منتجاً واحداً، فكر جديد هو نفس الفكر القديم، لا تداول ولا مشاركة ولا منافسة، مع أن أساس الاقتصاد الحر هو المنافسة، التى غابت أو تم تغييبها أثناء عملية تسويق استبداد بفكر جديد.
فى أمريكا هناك عمليات تسويق وصناعة كاملة للأبطال والأشخاص، والسياسيين، بل الحروب، لقد استعان الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش بشركة أمريكية لتسويق حربه على العراق، الشركة نجحت فى تسويق نوع راكد من الأرز، واستعان بوش بها لتسويق نوع من الديمقراطية تصلح للعالم الثالث، ديمقراطية بالاسم فقط، بينما الاستبداد يرتدى بدلة وكرافتة، ويضع على شفتيه ابتسامة، أمريكا باعت حربها وتنجح فى صناعة نجومها، أما نحن فقد توقفت عملية تسويق جمال مبارك من قبل لجنة التسويق عند شكليات وتصرفات تشبه ما يحدث فى الغرب لكنها لا تمت له بصلة، ولدى الغرب أسس للمنافسة، لا توجد عندنا.. هل يمكن تسويق منتج واحد طوال ربع قرن؟
ومثلما يفعل الحزب الوطنى تفعل حكومة الدكتور نظيف، التى تحاول تسويق نفسها وسياساتها بطرق حديثة، بالبلدى «تبيع للمواطنين كلام»، فقد تم اختراع المتحدث الرسمى فى الحكومة ووزاراتها، لكنه يقول نفس التصريحات الخشبية، وأنفقت الحكومة أموالاً لتسويق مشروع الضرائب الجديد، وتردد أن وزارة الاستثمار تحاول تسويق الخصخصة والصكوك، بحملات مباشرة أو غير مباشرة، تردد فيها اسم طارق نور خبير التسويق والإعلان، وأخيراً يحاول رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف أن يبيع للمواطنين إنجازاته بإصدار كتاب فخم عن الإنجازات الرائعة ونسبة النمو المرتفعة، يسوقها بين مواطنين لا يرون فرص عمل ولا مستشفيات ولا مدارس، ولا مساكن، ويشربون ماء ملوثاً، والعشوائيات لا يمكن تسويقها سياحيا أو اجتماعياً، لأنها سبة.
وفى حوار جمال مبارك مع من قيل إنهم شباب، كان التوقيت غير مناسب، وبطريقة لاعلاقة لها بالتسويق، ربما كان الأفضل الاستعانة بخبرات طارق نور الإعلانية، وحتى هذا غير مضمون، لتسويق حزب ليس حزبا، وحكومة تشبه الحكومة، وعشوائيات بلا نهاية.