ليس عندى شك كبير فى أن الذين يتصدون لكتابة موضوعاتهم ومقالاتهم الصحفية باللهجة العامية لا يمتلكون المهارات اللغوية الكافية لصياغة ما يكتبون بالعربية الفصحى!
ذلك أن المرء لا يلوذ باللهجة الدارجة عند سكب آرائه على الورق إلا إذا كان قاموسه الفصيح شاحباً وشحيحاً، ومقدرته على التعبير عن أفكاره باللغة الفصحى محدودة ومتواضعة!
أعرف جيداً الحجة التى يسوقها من يكتب بالعامية، والتى تتمثل فى أنه يستخدم لغة الناس العاديين التى ينطقون بها فى الشوارع والبيوت، وهى أقرب - وفقاً لهذه الحجة - إلى عقول القراء وأذواقهم!
هذا الكلام ينسف للأسف الجوهر الحقيقى للأدب خاصة والفن عموماً.
لماذا؟
لأن الأدب - بكل تنويعاته والصحافة جزء منه - يتكئ بشكل رئيس على تكثيف اللغة والسمو بها نحو آفاق أرحب وأغنى، فاللغة الدارجة التى نستهلكها فى حياتنا، هى لغة التواصل اليومى وتلبية احتياجاتنا المباشرة، أما اللغة الفصحى، إذا لانت وانصاعت للكاتب المبدع، فسوف ينبثق منها إشعاع آسر يحلق بالقارئ نحو فضاءات الخيال المنهمر، فتمتعه وترقق مشاعره!
لا تقل لى - من فضلك - إن الكتابة الصحفية ليست أدباً، وإنها موجهة لآلاف، بل ملايين القراء، وعليه يصبح من الضرورى أن نتحدث لهؤلاء الملايين بخطاب يستخدم لغتهم الدارجة نفسها بكل فقرها ومحدوديتها!
هذه الآراء مردود عليها، ذلك أن الصحافة العربية استطاعت منذ انبثاقها قبل أكثر من 180 عاماً، (جريدة الوقائع المصرية أول لصحيفة عربية صدرت فى عام 1828)، أن تزاحم الأدب فى مواقعه، فعرضت موضوعاتها وأخبارها وتحقيقاتها بلغة عربية فصحى، لكنها متخففة من الفخامة والطنطنة التى كان الأدباء يكتبون بها نصوصهم وإبداعاتهم فى نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
فى مصر على سبيل المثال، من يستطيع أن ينكر أن كوكبة معتبرة من الصحفيين الكبار كانوا يصوغون مقالاتهم بلغة فصحى رشيقة وأنيقة مثل محمد التابعى ومحمد زكى عبد القادر وأحمد الصاوى محمد ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وسلامة أحمد سلامة وفهمى هويدى وصلاح الدين حافظ وصلاح عيسى وغيرهم، ناهيك عن الأدباء والنقاد الذين لاذوا بالصحافة ليعبروا من خلالها عما يجيش فى نفوسهم من أفكار وآراء وأحلام وآمال، مثل طه حسين والعقاد والحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وأحمد عبد المعطى حجازى وفاروق عبد القادر وجابر عصفور وصلاح فضل وغيرهم.
باختصار كانت الصحافة إحدى المنارات الكبرى التى تضىء عقول الناس وتثقفهم وتهذب مشاعرهم، فضلاً عن دورها الرائد فى "تليين" اللغة العربية الفصيحة وتطويعها لمقتضيات العصر الحديث، من دون أن تقع فى مطب الابتذال، أو تركن إلى الاستعانة باللهجة الدارجة!
أما الآن، فقد ظهرت فى الخمسة عشر عاماً الأخيرة - داخل مصر - عدة صحف لا تستحى أن تضع عناوينها كلها باللهجة العامية، ولا تخجل أن تنشر مقالات رؤساء تحريرها وهى تحتشد بعبارات ومفردات دارجة لا حصر لها!
لقد أصبح الإفراط فى استخدام العامية ومخاصمة الفصحى دليل على انحطاط لغة الصحافة، وعدم قدرتها على تطوير أدائها اللغوى الفصيح ليواكب ما يحتاجه قارئ هذا الزمان!
المصيبة أن عدوى اللهجة العامية انتقلت من الصحافة إلى النصوص الأدبية، وتحديداً الرواية والقصة القصيرة (دعنا من شعر العامية، فتلك قصة أخرى)، وهكذا بات كثير من المبدعين لا يستنكفون أن "يرصّعوا" رواياتهم وقصصهم بمفردات من القاموس الدارج الذى يصل أحياناً إلى حد البذاءة، وبعضهم لا يجد أى غضاضة فى أن يجعل أبطال رواياته وقصصه يتكلمون ويتحاورون بأفحش الكلام!
الأمر الذى يدفعنا إلى تذكر التجربة العظيمة لسيد الرواية العربية نجيب محفوظ بكل إجلال واعتزاز، فالرجل أنطق شخوص رواياته من الأميين والجهلة والباعة والبسطاء والعاهرات والسكارى بلغة عربية فصيحة وأنيقة وجزلة! ولم يرفع شعار "العامية" بحجة أن الناس العاديين لا يتحدثون إلا بها!
لقد نسى هؤلاء أن "الفن كذب جميل" كما قال لى مرة بحق ناقدنا الكبير فاروق عبد القادر، ومن ثم يصبح من اللائق والجائز معاً، وفقاً لهذا المفهوم، أن يتحرر الكاتب الحصيف من أسر نقل الواقع كما هو بكل خشونته وفظاظته سواء الحقيقية أو اللغوية، ليقدم لنا عملاً من وعن الواقع، ولكن كيمياء الفن حذفت منه كل ما هو فج ومبتذل ورخيص، لتغنيه بسحر الابتكار وروعة التركيب وسمو الصياغة!
(مرة أخرى نجيب محفوظ نموذج ساطع ومشرق).
المؤسف أن الكتابة بالعامية - فى الصحافة والأدب - تنسف وحدة الثقافة العربية، وهى ثقافة عريقة جديرة بالحفاظ عليها وتنميتها وتطويرها!
فالقارئ المصرى على سبيل المثال يستحيل عليه أن يطالع موضوعاً صحفياً أو نصاً روائياً مصاغاًَ بلهجة مغاربية دارجة، كذلك من الصعب جداً على الإنسان السورى أو اللبنانى أن يقرأ نصاً بالعامية العراقية أو الخليجية، والعكس صحيح، فلماذا نهدر ما أنجزناه بامتداد قرون طويلة؟ ولماذا نفتت بنياناً شامخاً وباذخاً، اسمه اللغة الفصحى، يستظل به أكثر من 320 مليون إنسان عربى!
باختصار.. إن الذى يستعين باللهجة الدارجة دوماً فى كتاباته - الصحفية أو الأدبية - هو شخص قليل الحيلة لغوياً، يهرب من مهمة نبيلة وثقيلة وحتمية.. مهمة صناعة لغة فصحى جديدة تتواءم مع عصر التكنولوجيا وتلبى أشواق الناس لكل ما هو مثير وبديع وفاتن وهو أمر مؤسف على كل حال!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة