سوف أذكر هنا بتلخيص شديد تجربتى مع المسلسلات الرمضانية فربما تعكس صورة ما لتوضيح ما يتعرض له المواطن المصرى المغلوب على أمره فى مواجهة طوفان المسلسلات فى رمضان، فعندما بدأت كتابة الدراما التليفزيونية "المسلسلات" سنة 1980 كنت خارجا من السجن الاحتياطى بعد الإفراج عنى وبرأنى القضاء المصرى المحترم من التهمة المضحكة بـ"محاولة قلب نظام الحكم" وكنت قد فصلت من "وزارة الثقافة المصرية" حيث كنت أعمل إخصائى إعلام بهيئة قصور الثقافة "الثقافة الجماهيرية"، وبعد خروجى من السجن وجدت نفسى غير قادر على إعالة أسرتى الصغيرة المكونة من زوجة طيبة وابنى الكبير وابنتى البكرية وكان طعامنا جميعا يعتمد على راتب زوجتى إخصائية التدريب بهيئة البترول والذى لم يكن يتجاوز راتبها الشهرى الخمسة وعشرين جنيها فى الشهر، وفى وضع اجتماعى كهذا كانت معنوياتى فى الأرض إلى أن اقترح على الشاعر الكبير "أمل دنقل" بمبادرة من زوجته الرائعة الناقدة الكبيرة "عبلة الروينى" أن أكتب مسلسلا تليفزيونيا لشركة إنتاج عربية قطاع خاص كان يديرها المخرج "منير راضى" والفنانة المحترمة "ناهد جبر" ويشرف عليها فنيا الدكتور "حسين عبد القادر" وكان من ضمن لجنة القراءة طبيب العيون النابغة والكاتب الدرامى "هشام السلامونى"، فأعددت مشروعا بكتابة "البخلاء" للجاحظ كمسلسل درامى من التراث باللغة العربية الفصحى واصطحبنى أمل لشركة الإنتاج وتمت الموافقة وخرجت من الشركة بعد توقيع العقد بستة آلاف جنيه مرة واحدة قبضت منها العربون ستمائة جنيه وهو مبلغ يزيد عن مرتب خريج الجامعة بثلاثمائة مرة فى الشهر والذى لم يكن يتجاوز العشرين جنيها فى هذه الأيام، وأنا أذكر هذه الأرقام لتوضيح الفارق فى أجور المسلسلات عن أجر الموظف خريج الجامعة.
خرجت من شركة الإنتاج كواحد من الأثرياء فدعوت "أمل دنقل" و"عبلة الروينى" على العشاء الفاخر فى مطعم من مطاعم الخمسة نجوم وبعد أن تعشينا جاءت الفاتورة لندفع الحساب وكانت أكثر من ثمانين جنيها فأخرجت لفة النقود من جيبى لأدفع لكن "أمل دنقل" رفض أن أدفع أنا الحساب وقال إنه هو صاحب الدعوة احتفالا بدخولى فى زمرة الأغنياء، ودارت الأيام بعدها حيث طلب منى الكاتب الكبير ورائد الكتابة التليفزيونية "أسامة أنور عكاشة" أن أكتب مسلسلا ليخرجه صديقه المخرج الكبير الراحل "فخر الدين صلاح" وطلب لى "أسامة أنور عكاشة" من الشركة المنتجة أعلى أجر تدفعه شركة الإنتاج لكاتب يكتب لها، فكتبت مسلسلا باسم "الأحباب والمصير" فى خمسة عشر حلقة، فلم تكن المسلسلات تعرف حكاية الثلاثين حلقة، فحصلت على خمسة عشر ألف جنيه دفعة واحدة، بعدها عملت مع المخرج الكبير "يوسف شاهين" فى كتابة فيلم "بونابرت" ودارت العجلة لكن السينما المصرية التجارية كانت متعثرة كما أنها كانت مبتذلة ويسمونها أصحابها "سينما المقاولات" وكانت هذه الفترة هى فترة انحطاط كامل فى إنتاج الأفلام فرفضت التعامل مع السينما التجارية فى هذه المرحلة لكنى كتبت فيلمين من إنتاج أفلام التليفزيون المصرى التى كانت تنشد الاختلاف فى القيمة الفنية عن سينما المقاولات التجارية هما فيلم "وزير فى الحبس" وفيلم "أيام الماء والملح" وكان يشرف على إنتاج المسلسلات فى التليفزيون المصرى واحد من أهم خبراء الإنتاج وأكثرهم احتراما هو "يوسف عثمان" الذى طلب منى كتابة مسلسل عن أمير الشعراء "أحمد شوقى" ومن إخراج "يحيى العلمى" وكتب "أسامة أنور عكاشة" أول مسلسل من جزأين وهو "الشهد والدموع" وأنتجته شركة إنتاج عربية قطاع خاص لكنها اكتفت بإنتاج الجزء الأول فقط وأعادت الجزء الثانى للكاتب حيث أنتجه التليفزيون المصرى
وعندما عرض الجزء الأول نال نجاحا منقطع النظير وغير مسبوق مع أن "أسامة" كان قد كتب عدة مسلسلات قبل ذلك مثل "طيور الصيف" و"عابر سبيل" لكن الشهد والدموع بجزأيه كان فاتحة اهتمام الجميع سواء من الجماهير أو المنتجين فتلاه الكاتب الكبير "أسامة أنور عكاشة" بدرته الخالدة فى الدراما التليفزيونية "ليالى الحلمية" وبالذات فى الثلاثة الأجزاء الأولى منه ومع توالى نجاح "ليالى الحلمية" وانهيار إنتاج الأفلام ووصول السينما إلى مرحلة من الانحطاط فقد اتجه نجوم ونجمات ومخرجو السينما لإنتاج المسلسلات فراجت سوق الإعلانات ودخلت شركات الإعلانات كشريك أساسى فى عملية الإنتاج وانهال طوفان المسلسلات التى لم يكن أصحابها يعتنون كثيرا بالقيمة الفنية وشنت "الفضائيات" هجومها على المشاهدين فتوحشت الإعلانات وسيطرت قيمها وأهدافها على سوق الإنتاج التليفزيونية سواء للمسلسلات أو برامج التسلية فى تسطيح وسهولة ودون اعتناء وبالذات فى شهر رمضان الذى أصبحت شركات الإعلان تعتبره بمثابة الموسم السنوى لترويج إعلاناتها فتحكمت تماما بكل قيمها وتقاليده فى كل عملية إنتاج وتسويق المسلسلات وخضع الجميع بما فيهم تليفزيون الدولة ممثلا فى "قطاع الإنتاج" وشركة صوت القاهرة" و"مدينة الإنتاج الإعلامى" وخضع الجميع لقيم وتقاليد شركات الإعلان دون اهتمام بجودة أو قيمة فنية.
أذكر أنه عندما تم تعيين "ممدوح الليثى" للإشراف على إنشاء "قطاع الإنتاج" طلب منى كتابة مسلسل "ألف ليلة وليلة" وسواء اختلفت أو اتفقت مع "ممدوح الليثى" لكنه سوف يبقى من أهم المسئولين عن إنتاج المسلسلات والأفلام فى مصر، طلب منى "ممدوح الليثى" كتابة "ألف ليلة وليلة" للعرض فى رمضان وبعد الانتهاء من الكتابة ووافقت الفنانة الرائعة "شريهان" على بطولة المسلسل مشترطة أن يشاركها البطولة "هشام سليم" ومن إخراج ملك الفيديو "نور الدمرداش" تم تغيير المخرج "نور الدمرداش" وتم إسناد إخراج المسلسل للمخرج "هانى لاشين" فطلب "هانى لاشين" تغيير "هشام سليم" وأسند بطولة المسلسل للممثل الكوميدى "سمير غانم" فاعتذرت "شريهان" عن بطولة المسلسل فأسند المخرج البطولة للفنانة "ليلى علوى" ومع أول يوم تصوير للمسلسل أدرك الجميع أن الممثل "سمير غانم" لن يقول كلمة واحدة من النص المكتوب وراح يرتجل أمام الكاميرا ما يحلو له بمشاركة من المخرج "هانى لاشين" فطلبت من "ممدوح الليثى" عدم وضع اسمى على المسلسل بصفتى مؤلفه فرد بأنه يستحيل ذلك لأنى كنت قد تقاضيت كامل أجرى قبل بداية التصوير وأنه لا يستطيع السيطرة على "سمير غانم" فلا هو ولا "هانى لاشين" ولا أى أحد فى العالم يمكنه السيطرة على "سمير غانم" فقررت عدم كتابة المسلسلات نهائيا، وأحمد الله على أنه قد أنجانى من هذا الطوفان الذى يغرق الجميع بالتفاهة والتسطيح.