ارتباط المصريين بالدين هو الأعلى فى العالم كله بشهادة الجميع.. وأصبح الدين.. إسلام أو مسيحية.. هو الملمح الأول والعامل الأهم فى تكوين الشخصية والهوية المصرية.. وعلى الرغم من أننا فى معظمنا لا نلتفت كثيرا أو قليلا لمثل هذه الحقيقة.. إلا أنه ليس هناك ما يمنع الآن من أن نعود ونقرأ ونتأمل.. ثم نجلس ونفكر ونعرف.
الإنسان الأوروبى نجح فى الماضى فى إقناع نفسه بأنه لكى يصبح عصريا وحرا.. فلابد أن يكون علمانيا وراديكاليا.. إلا أن الصورة تختلف الآن وأصبح بإمكان الأوروبى، أن يكون حرا وعصريا ومتمدينا، وأن يكون متدينا أيضا.. بنفس العمق والحجم وفى نفس الوقت وبدون أى تناقضات أو عوائق وموانع.
فى العدد الأخير.. استضافت مجلة نيوزويك، الكاتب والمفكر المصرى جمال البنا ليكتب لها مقالا بمناسبة قدوم شهر رمضان، وبالفعل كتب البنا عن شهر رمضان الذى يتخيله الناس شهرا للصيام، بينما هو فى الحقيقة شهر للقرآن.. واستند البنا فى رؤيته للنص القرآنى الذى تحدث عن شهر رمضان أولا باعتباره الشهر، الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. ثم يستكمل الله سبحانه وتعالى فى القرآن قائلا: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، وأمام هذا الترتيب وهذه الرؤية، يتوقف البنا مؤكدا أن شهر رمضان ينبغى أن يكون دائما شهرا للقرآن فى المقام الأول وأن يكون صيام رمضان هو بعض احتفالنا بالقرآن وبشهر القرآن، ويضيف البنا مؤكدا أن شهر رمضان مفترض أن يكون المناسبة التى نظهر فيها احتفالنا وتقديرنا وفهمنا وتطبيقنا للقرآن، والقرآن فيه تبيان لكل شىء.. ومن ثم فإن الاحتفال به يمكن أن يضم كل شىء حتى الفنون والموسيقى والمسلسلات والغناء، ولكن ذلك ليس إلا جزءا يسيرا من عالم القرآن العظيم.
وأنا لا أعرف ما الذى يقصده على وجه الدقة جمال البنا بشأن أن تصبح الفنون والموسيقى والمسلسلات والغناء جزءا من احتفالنا بالقرآن فى شهر القرآن.. ولكننى أوافقه تماما فى ضرورة أن يكون شهر رمضان كله احتفالا حقيقيا واهتماما عميقا بالقرآن وبما دعانا إليه القرآن وما يمكن أن نتعلمه من القرآن.. تماما مثلما أوافق عمرو خالد حين يقدم طوال شهر رمضان برنامجا يوميا عن قصص القرآن.. وفى هذا البرنامج لا يكتفى عمرو خالد بالسرد والكلام، وإنما هو يقوم بمحاكاة للقصص التى يتناولها من القرآن، وأحيانا يقوم عمرو خالد بتمثيل الموقف بنفسه فى كثير من حلقات البرنامج، وما إن تم الإعلان عن ذلك، حتى بدأ الغمز واللمز والسخرية المباشرة أو المستعارة وتصوير عمرو خالد.. وبقية الدعاة فى برامجهم الرمضانية.. مصطفى حسنى ومحمود المصرى ومحمد العريفى، وتصوير كل هؤلاء على أنهم المنافقون المتربحون من القرآن والمتاجرون به، وأن الدعاة الجدد أصبحوا كالفنانين ينتظرون شهر رمضان كل عام ليتباروا للظهور فيه بشكل جديد لجذب مزيد من المشاهدين.. وأنا مبدئيا لا أعرف لماذا لا نمنح عمرو خالد وكل رفاقه وزملائه، نفس الحقوق التى نمنحها لأى ممثل أو مطرب أو مذيع.. لماذا نشيد بأى محاولة للتجديد يقوم بها أى ممثل فى مسلسل وأى مذيع فى برنامج ونستنكر فى نفس الوقت أى محاولات للتجديد والابتكار يقوم به داعية أثناء حديثه عن القرآن، وكأن الفن مطلوب فيه التجديد ومقبول ومحمود، أما الكلام عن القرآن والكتابة عنه وبرامجه، فليس من المفروض أن يكون هناك أى تجديد أو ابتكار فيه.. ويبدو من كل هذا الانزعاج الحاصل مما يقوم به عمرو خالد ورفاقه، أن الدافع الحقيقى وراءه هو خشية أن يؤدى هذا التغيير وهذا التجديد والابتكار إلى استرداد البرامج الدينية لما تستحقه من نجاح وشهرة وكثافة مشاهدة وبريق وتأثير.. فهناك من يتمنى لتلك البرامج نفس المصير الذى انتهت إليه المسلسلات الدينية، نفس الجمود والتخلف والتسطيح وفقر الفكر وفقر الإمكانات حتى جاءت اللحظة التى لابد منها، لتموت المسلسلات الدينية وتنزوى فى أبعد الآفاق والأوقات أيضا.. وأحيانا تختفى تماما حيث لا مشاهد يريدها ولا معلن يدعمها لأنه لا أحد يريد أو سيدعم شيئا فاشلا وعديم القيمة والتأثير.
ولهذا.. أو بهذا المنطق.. أنا مع جمال البنا فى دعوته لأن يتحول شهر رمضان كل عام إلى شهر للاحتفال بالقرآن والالتفات إليه.. ومع عمرو خالد ورفاقه فى تجديد الحديث عن القرآن وابتكار أشكال جديدة وصور مغايرة لجذب اهتمام الكثيرين للقرآن وما فيه من دروس وأحكام وقصص وحياة.. وإذا كان الرافضون لعمرو خالد وما يقوم به سيستندون إلى أنه يتكسب الكثير من الأرباح، وبالتالى فهو يخدعنا ويدعى أنه يقوم بذلك من أجل الله ومن أجل القرآن بينما الحقيقة تبقى أنه يقوم بذلك من أجل المال.. فأنا أقول لهم إنه لم يعد هناك أحد لا يعمل ويتعب ويبدع من أجل كسب الرزق.. ولو كان منطق هجومهم على عمرو خالد ورفاقه صحيحا.. فبنفس المنطق يصبح نفس الهجوم صحيحا وينطبق على كل الفنانين والمذيعين ورجال الأعمال ولاعبى الكرة والصحفيين والشعراء.. فلا أحد من كل هؤلاء سمعنا أنه فقط صاحب قضية ولا يتكسب أى مال مقابل ما يقوم به.. ولكننى فى نفس الوقت ضد هؤلاء الذين يتكسبون من القرآن ويتاجرون به.. وأبرز هؤلاء الآن هم الذين يزعمون قدرتهم على العلاج بالقرآن، والذين يسيرون وراءهم متوهمين أنهم.. بالقرآن ليسوا فى حاجة إلى طب وأطباء ودواء.. وبدلا من أن يحمل هؤلاء ملفاتهم وملفات مرضاهم التى بها صور الأشعة ونتائج التحاليل ليطوفوا بها على عيادات الأطباء، طافوا على هؤلاء الذين ادعوا القدرة على العلاج بالقرآن.. ويالها من لافتة فيها ما فيها من تبجيل وتقديس وتوقير.. فالعلاج ليس بدواء من صنع بشر، وليس من صنع جان يحبون أو يكرهون البشر، إنما هو علاج بالقرآن.. بكلمات الله.. فمن إذن الذى يملك جرأة أو وقاحة الاعتراض على الاستعانة بكلمات الله لمقاومة الداء والسقم والألم.
لا أحد بالطبع.. أقصد أنه لا أحد من الأطباء اعترض.. ولا اعترض أحد من رجال الدين الذين هم مفترض فيهم الدفاع عن الدين ضد كل هذا الجهل وضد كل هذه الخرافات، وضد أولئك الذين أحالوا القرآن لدكانة للترزق منها وفيها يتكسبون ويستنزفون أموال الفقراء والبسطاء والأغنياء على حد سواء.. أولئك الذين زاد عددهم فى سنواتنا الأخيرة.. وأصبحوا يوما بعد آخر أكثر جرأة علينا وعلى الحقيقة، بل وعلى الله ورسوله وقرآنه أيضا.. يقولون الحق وهم يقصدون ويريدون الباطل.. يستقبلون الناس فى بيوتهم التى أحالوها إلى عيادات فجأة يوهموننا بأنهم يعالجون كل الأمراض ويؤلفون الكتب التى تروج لمثل هذا التيار الذى ليس من معنى أو دلالة له، إلا أننا نحن المسلمين لا نزال نستعذب الجهل ونرتاح للخرافة ونرفض العلم والنور.. وكأن ديننا دين لا يكترث ولا يحترم العقل أو العلم أو الطب أو حتى المنطق وحقائق الأشياء.
وأنا لا أعرف لماذا لا يعترض على هؤلاء ولا يقف فى وجههم أحد.. لكننى أعرف أنه كاذب تماما كل من يدعى أنه قادر على العلاج بالقرآن.. وليس هناك أصلا ما يمكن أن يكون علاجا بالقرآن.. ليس تشكيكا فى قدرة القرآن.. إنما هو كتاب الله الذى به نلوذ ونحتمى ومنه نتعلم ونهتدى وإليه نختصم ونحتكم.. لكن لم يطالبنا الله بأن نطلب من قرآننا علاج أمراضنا ومواجعنا.. ولم ينزل الله قرآنه على رسوله لنحيله نحن يوما إلى مستشفى وصيدلية وغرفة عمليات.. وإذا كان البعض منا يطالب بذلك ويدعونا إلى ذلك استنادا إلى آية كريمة يقول فيها الله سبحانه وتعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وهى الآية التى أرادها البعض حجة ودليلا لا يحتمل الشك أو المراجعة على أن القرآن شفاء وعلاج.. علاج لكثير وربما لكل الأمراض والأوجاع وأخذوا يدللون على صحة ما انتهوا إليه بأحاديث كثيرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام تشير إلى التداوى ببعض آيات القرآن.
ولهؤلاء أؤكد أن القرآن لم يتحدث عن الشفاء فى تلك الآية وحدها والتى هى الآية الثانية والثمانين من سورة الإسراء، وإنما تحدث الله سبحانه وتعالى فى قرآنه عن الشفاء فى خمس آيات أخرى، فى الآية الرابعة والأربعين من سورة فصلت حين قال: أأعجمى وعربى قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وفى الآية السابعة والخمسين من سورة يونس حين قال: قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور، وفى الآية الرابعة عشر من سورة التوبة حين قال: ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، وفى الآية التاسعة والستين من سورة النحل حين قال: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وفى الآية الثمانين من سورة الشعراء حين قال: وإذا مرضت فهو يشفين.
صدق الله العظيم ولم يصدق أولئك المتاجرون بالقرآن.. فالله فى قرآنه تحدث عن الشفاء، لكنه لم يترك الأمر هكذا دون تعليل وتفسير، ولم يجعل من آياته رخصة لمن يريد إعلاء كلمة الجهل ورايات الزور والبهتان، فى القرآن شفاء، نعم، ولكن ليس من السرطان ولا ذبحات القلب ولا حتى من الصداع النصفى، إنما يشفى القرآن من علل وأسقام للنفس من أمراض القلب والروح والفكر.. كلها تحدث عنها الله فى قرآنه الكريم كثيرا وطويلا فى أكثر من آية وفى أكثر من سورة.. كأن يقول فى الآية العشرين من سورة محمد: رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت، أو يقول فى الآية التاسعة والعشرين من نفس السورة: أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم.. أو يقول فى الآية التاسعة والأربعين من سورة الأنفال: إذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم.. أو يقول فى الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة التوبة: وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم.. أو يقول فى الآية الثانية عشرة من سورة الأحزاب: وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.. وغير مرض القلب تحدث القرآن أيضا عن مرض الشهوة والاشتهاء كقول الله تعالى فى الآية الثانية والثلاثين من سورة الأحزاب: يا نساء النبى لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض، وغير ذلك كله تضمن القرآن الكريم آيات أخرى كثيرة تحكى جميعها عن أمراض القلب والنفس والروح، والتى سيتعين دوما على أصحابها وضحاياها أن يبحثوا لأنفسهم عن شفاء منها فوق صفحات القرآن وبآيات القرآن، أما الأمراض الأخرى، أمراض الجسد وزواياه وثناياه وأعضاؤه، فتلك التى أشار إليها القرآن كمبرر لعدم صيام رمضان أو للامتناع عن أداء فريضة الحج أو التخلف عن المشاركة فى الجهاد فى سبيل الله، وحين أشار الله سبحانه وتعالى إلى الاستشفاء من بعض هذه الأمراض كانت آية واحدة تلك التى قال فيها الله عن عسل النحل، إن فيه شفاء للناس.. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يثبت عنه أن اكتفى بالقرآن علاجا لأمراضه، بل كان يشكو الداء فيطلب الدواء، وهو الذى قال عليه الصلاة والسلام: ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، وفى مسند الإمام أحمد قال زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك إنه قال: كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يارسول الله أنتداوى؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء. هكذا كانت نصيحة رسول الله لعباد الله فى هذا الحديث وفى أحاديث شريفة أخرى وكثيرة، أن يتداووا، فخالق الداء هو نفسه خالق الدواء.. لم يطلب رسول الله من عباد الله أن يفتشوا عن العلاج فى كتاب الله لكن طلب منهم أن يتداووا، طلب منهم أن يعالجوا الحمى مثلا بالماء، وأن يعالجوا أوجاع البطن وأوجاعا أخرى بالعسل واللبن، وكان عليه الصلاة والسلام يعلمهم كيف يداوون جراحهم، وكيف يتغلبون على أوجاعهم وكيف يستعينون على ذلك كله بالأطباء وبالأعشاب، وبعد ذلك كله يأتينا فى بدايات القرن الحادى والعشرين أفاقون يطلبون منا أن ننسى وأن نلغى عقولنا فلا نذهب إلى طبيب ولا نحتكم إلى طب أو علم، لكن نذهب إليهم بدعوى أنهم وحدهم يملكون القدرة على شفائنا بالقرآن.. يستندون فى ذلك إلى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام قال فيه: خير الدواء القرآن.. لكنهم ينسون أن الرسول قال ذلك ليتعلم منه المسلمون كيف يستعينون بالقرآن وكيف يتخذون منه رقية يحتمون بها ليدفعوا عنهم الحسد واللدغة.. هم أيضا يتناسون ويلغون سلوك الرسول عليه الصلاة والسلام وميراثه كله، وابتدعوا إسلاما جديدا وقرآنا جديدا هم وحدهم يملكون مفاتيح أسراره وطلاسمه، وقد لا يصدق الكثيرون ذلك، وأنا أيضا لم أكن لأصدق، لولا أننى رأيت وسمعت، رأيت واحدا من هؤلاء يزعم قدرته على علاج أى مرض بالقرآن، يحمل فى يده قلما وأوراقا يمضى بهما بين الناس، إذا استوقفه أحد مصاب بالقلب كتب له أسماء سبعة سور من القرآن بحيث يقرأ سورة معينة لكل يوم من أيام الأسبوع.. هكذا لمدة شهر وأحيانا ثلاثة أشهر.. بعدها يشفيه الله ببركة القرآن.. وقد كانت مفاجأة لى أن هذا البرنامج لا يتغير من مرض القلب إلى السرطان إلى الشلل.. نفس البرنامج، لكن فقط تتغير أسماء السور.. وحتى تلك التى عجزت طويلا عن الإنجاب، لم يتردد هذا الرجل وهو يؤكد لها أن القرآن قادر على أن يحل لها أزمتها لتنجب بإذن الله.. وكأنها كانت أولا لا تنجب بدون إذن من الله، وكأن كل هذه الأمراض لا تحدث بإذن وعلم من الله، فما إن يهرع ضحاياها إلى كتاب الله حتى يشفيهم الله على الفور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة