من الأشياء القليلة التى يتميز بها الموت أنه صاحب"مزاج"، يعرف جيدا كيف ينتقى زبائنه بعناية، وكالعادة لم تخب نظرة الموت هذه المرة فاختار محمود عوض، وكأن ملك الموت نظر نظرة علوية لعقول البشر فوجده صيدا ثمينا، اختطفه على حين غفلة منا، أصبح الموت أكثر تقديرا لأشخاص يعيشون بيننا ولا نعرف قيمتهم إلا بعد الرحيل.
أنت عندما تكتب عن شخص مثل محمود عوض فمن حق القلم أن يهتز ومن حق أصابعك أن ترتعش .. لا تستكثر على تلك الغصة التى فى حلقك أن تخرج على ملامح وجهك ..عليك أن تتذكر جيدا أن هذا الرجل هو الذى ضرب عرض الحائط بمعادلات الكتابة الصحفية .. هو الذى جعلها تساوى حاصل ضرب الكلمة فى مربع الحقيقة على الجزر التربيعى للرشاقة.. هذا الرجل أخرج الكلمة من أداة للوصف إلى مصدر رئيسى للتشريح يظهرها عظاما خالية من نتف لحم التوازنات .. يكتب عن السياسة وكأنه لاعب بيانو ماهر ويكتب عن الفن وكأنه خطيب سياسى مفوه.
مات محمود عوض وهو يفكر.. لفظ أنفاسه وهو ينتوى الكتابة.. لقيت روحه ربها وجسده ملقى بين أكوام الكتب بما فيها من حقائق وأكاذيب، لكنه كان يعلم أن الحقيقة الواحدة هى أن تموت بعد أن تقول كلمتك وليس أن تموت كلمتك وأنت تنظر إليها.
وكأن حادى الأرواح كان يعلم أن هذه الروح مختلفة عن مثيلاتها فاختار لها أن تموت فى هدوء .. كان يعلم أن صاحبها يحمل بين دفتى صدره من المعلومات والشجون ما لا تحتمله الأرواح الضعيفة التى حولت أقلامها إلى مجرد أداة لتزيين أوجه سادتها وسلمت صحفها شاليهات جاهزة للمنتجعات السياسية.
هذه روح مختلفة تشبعت حيرة فتشبع صاحبها خبرة.. كان من السهل عليه أن يبيع دماغه ليعيش جسده مرفها، إلا أنه اختار الوحدة باعتبارها أكبر معلم فى الحياة اختار التأمل مذهبا والاستقلالية ملاذا.. كان أولى به أن يموت الآن فهذه الروح لا تحتمل كل هذا الكم من التفاهات .. رحمه الله.