فى العدد الأسبوعى لجريدة اليوم السابع، كتب الصديق والكاتب الصحفى اللامع "سعيد الشحات" مقاله البديع عن "محمود السعدنى بن الجيزة الذى عاش الفقر وعرف البسطاء والملوك، لكنه سخر من الجميع"، وهو عنوان يلخص حياة هذا العبقرى الذى كتب أرقى أنواع الأدب الساخر فى الأدب العربى المعاصر، وإن كانت حياته الحافلة تحتاج إلى مجلدات، وقد سمعت "القديس" وزعيم الصعاليك "عبد الرحمن الخميسى" فى دمشق يقول عن السعدنى إنه "النواة الأساسية لخلية السخرية الأدبية فى الأدب العربى المعاصر، فهو أهم جينات السخرية التى تتوارثها أجيال الأدباء لكتابة الأدب الساخر".
كنا فى دمشق سنة 77 على ما أتذكر، وكان الكتاب والمثقفون المصريون خارج مصر يحضرون مؤتمرا لإدانة معاهدة كامب ديفيد، وكان الخميسى ممنوعا من دخول سوريا أثر خلاف بينه وبين النظام السورى، فجاء من موسكو إلى بيروت، حيث توسط الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات بين الخميسى وبين الرئيس الراحل حافظ الأسد وبعد أن نجحت مساعى عرفات رافقت الخميسى إلى دمشق فى سيارة خاصة عبر الطريق العسكرى بين بيروت ودمشق، وفى المؤتمر طلب من الخميسى أن يقول كلمة باسم مصر، ووقف الخميسى على المنصة يلقى الكلمة وأخذ يسهب فى مدح الرئيس الأسد وطالت مدة الخطاب، فقال السعدنى إن الخميسى يلقى كلمة باسم دولة الخميسى وضج الجميع بالضحك حتى الخميسى ضحك وقال إن لسان محمود السعدنى هو الذى أدخله السجن وهو الذى أخرجه من مصر.
أول مرة رأيت فيها "الأستاذ" فى بغداد سنة 76 ويومها كنت محررا بجريدة الجمهورية العراقية، وكان "الأستاذ" فى هذه الأيام يتنقل فى عواصم العرب متخيرا عاصمة عربية كمنفى اختيارى، له فبعد وفاة عبد الناصر رحمه الله واحتدام الصراع بين السادات، الله يرحمه، ومجموعة من المسئولين المحسوبين على التيار الناصرى والذين أسماهم السادات "مراكز القوى" مثل شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمود فوزى وغيرهم. انتهى الصراع بتقديمهم استقالاتهم الجماعية فاعتقلهم السادات وقدمهم للمحاكمة أمام محكمة الثورة ولفق لهم التهمة الشهيرة "محاولة قلب نظام الحكم"، وكان اسم محمود السعدنى من ضمن أسماء المشاركين فى هذا الانقلاب المزعوم وتمت محاكمته معهم وأدين وسجن مع من أدين وسجن منهم، وكما يقول محمود السعدنى فإن القذافى حاول التوسط له عند السادات إلا أن السادات رفض وساطته وقال "إن السعدنى قد أطلق النكات على وعلى أهل بيتى، يقصد زوجته السيدة جيهان السادات، ويجب أن يتم تأديبه ولكنى لن أفرط فى عقابه"، وبعد سنتين تم الإفراج عن السعدنى لكن إمعانا فى عقابه فقد صدر قرار السادات بفصله من مجلة "صباح الخير" واستمر التنكيل به منعه من الكتابة بل ومنع ظهور اسمه فى أى جريدة مصرية حتى فى صفحة الوفيات، فقرر السعدنى مغادرة مصر إلى بيروت حيث "استطاع الكتابة بصعوبة فى جريدة السفير وبأجر يقل عن راتب صحفى مبتدئ، وقبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية غادر السعدنى بيروت إلى ليبيا وعرض عليه القذافى إنشاء جريدة أو مجلة له فى بيروت إلا أن السعدنى رفض ذلك خوفاً من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين والذين سيرفضون وجوده حتى لا يشكل السعدنى تهديداً لتجارتهم الرائجة فى هذه الأيام وكانت الصفقة بعد ذلك من نصيب صحفى لبنانى أعطاه القذافى دورين فى نفس العمارة التى يوجد بها وكالة الأنباء الليبية وسكن فى دور واستخدم الدور الثانى كمكتب لإصدار مجلة اهتمت كثيرا بالكفاح العربى.
عندما قابلته فى بغداد للوهلة الأولى غمرنى إحساس طاغ بأنى أمام حجم ضخم من الموهبة التى تتفجر حوله فى كل اللحظات وما عليك إلا أن تتعلم منه كل ما تستطيع أن تتعلمه، عندما عرف "الأستاذ" أنى متزوج وقد أنجبت زوجتى ابنتنا الأولى منذ شهور قليلة فنصحنى بضرورة عمل زوجتى حتى أستطيع أن أعول أسرتى فى بغداد دون أن أتعرض لأى رشوة سياسية وأن أعتمد على نفسى وعلى قوة عملى ولا أكون من تجار النضال الذين تعولهم أنظمة الحكم العربية، وفى اليوم التالى قابلته فى مكتب أمين عز الدين بوزارة التخطيط العراقية الذى ساعدنى بتعيين زوجتى الحاصلة على ليسانس الآداب قسم اجتماع من جامعة القاهرة فى مؤسسة النفط العراقية كأخصائية لبرامج تدريب العاملين، ثم تركت بغداد عام 77 إلى بيروت وترك "الأستاذ" بغداد إلى لندن لمتابعة علاج ابنته، وبعد عودة "الأستاذ" إلى مصر نهائيا بعد اغتيال الرئيس السادات، الله يرحمه، فى عام 81 وعودتى من بيروت عام 82 وكتبت مسلسل ألف ليلة واقترح على "ممدوح الليثي" كتابة مسلسل عن رواية السعدنى "حتى يغيب القمر"، وكنت أتردد كثيرا على بيته إلى أن غضب على لأنى رفضت تدخل الكاتب الراحل "عبد الرحمن شوقى" فى ألف ليلة لتكبير حجم دور الممثل "سمير غانم فى الحلقات" وعرفت أن عم عبد الرحمن شوقى قد اشتكانى للسعدنى فخفت من غضب الأستاذ ولم أعد أتردد عليه فى هذه الأيام، لكن بقى حبى واحترامى وتقديرى للسعدنى بلا حدود وسوف يبقى "الأستاذ" أحد كبار الأدباء العظام الذين يحملون جمرة السخرية من جيل إلى جيل منذ أديب العرب الأول "الجاحظ" وحتى اليوم، بالرغم من أن السعدنى نفسه يعتبر "مأمون الشناوى" معلمه الأول كما كتب عنه، لكن محمود السعدنى سوف يبقى هو المعلم الحقيقى لكل كتاب الأدب الساخر وسوف يبقى دائما كما قال عنه "عبد الرحمن الخميسى.. النواة الأساسية لخلية السخرية الأدبية التى سوف تتوارثها الأجيال عبر العصور، وألف ومليون سلامة عليك يا أستاذ.
* كاتب وروائى مصرى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة