مرات كثيرة التقيته أو تحدثت إليه، كان دائما، المفكر الموسوعى، شديد التواضع، خفيف الظل. وما يزال يعيش بيننا، فى عيد مولده الثانى والسبعين، بالرغم من رحيله.
لا أتصور أن أكثر من عامين مرا على رحيل الصديق والمفكر الرائع عبد الوهاب المسيرى، المولود فى الثامن من أكتوبر عام 1938. وقد تعرفت عليه قبل أن أقابله بسنوات. فقد قرأت له ترجمته لكتاب "الغرب والعالم" للمؤرخ والمفكر الأمريكى كافيين رايلى الذى قدم التاريخ من خلال موضوعات وليس أحداثًا. ورصد نشأة الحضارة من المدن التى كانت نواة الدولة الحديثة.
كان للدكتور المسيرى وزوجته الدكتورة هدى حجازى أكثر من ترجمة، وكانت المقدمة التى كتبها المسيرى فى حد ذاتها نصا فكريا مهما. وحكى لى المسيرى عن صداقته بالمفكر كافيين رايلى وتفاعله مع أفكاره، لأكتشف أنه لم يكن مترجما أو ناقلا، لكنه كان يقيم حوارا مع الكتاب ومؤلفه. وروى لى أنه كان قد كتب مقدمة أطول، لكن المساحة اضطرته لاختصارها، وقلت له إنها ليست مقدمة، لكنها كتاب مواز، فوافقنى، وأخبرته أننى سأنتظر أن تصدر كاملة فى كتاب.
قبل أن أعرفه قرأت له كاتبه "نهاية التاريخ" الذى سبق فوكوياما بأكثر من عشر سنوات، ويختلف معه فى شكل نهاية التاريخ، واعتبره المسيرى اختراعا غربيا لمصادرة المستقبل. كما قرأت له الأيدلوجية الصهيونية الذى كان مختلفا عن كثير من الكتابات السطحية، فقد كان الكتاب نظرية فى إعادة فهم الصهيونية واللوبى.
تعرفت على المسيرى فى أعقاب أزمة اجتياح العراقى للكويت الذى جرى والمسيرى فى إجازة بمصر ليواجه أكثر المواقف والاختبارات صعوبة فى حياته، عندما اكتشف أن كل مراجعه وأوراقه والنسخة الوحيدة من موسوعته عن الصهيونية واليهودية كلها فى الكويت سافر تحت القصف، وبقى أسابيع وعاد بشاحنة حملها بـ 30 صندوقا فيها كنوزه الفكرية عن طريق بغداد ثم الأردن إلى القاهرة. رحلة خطرة، لكنها كانت بالنسبة له مصيرية، وكان يروى لى ذلك بهدوء ودون أى محاولة لإظهار بطولة.
أما كيف فكر فى دراسة اليهودية فقد حكى أنه عندما سافر إلى أمريكا عام 1969 التقى بزميلة له سألها عن جنسيتها فقالت له "يهودية" وكرر سؤاله فكررت الإجابة، فقرر أن يدرس ويبحث عن الديانة عندما تصبح جنسية، وأصدر عام 1975 الموسوعة المبسطة عن المصطلحات اليهودية والصهيونية. وكانت نواة لمشروعه الأهم والأشمل، الموسوعة التى كانت تحمل أكثر من تعريفات ومعلومات، بل نظرية للبحث والمعرفة، وكنت قد تحدثت معه مرات فى لقاءاتنا المتباعدة عن منهجه وكيف يحتاج إلى تقديمه فى مؤلف شامل يتضمن أفكاره الغزيرة. وأذكر أنه أهدانى نسخة من طبعتها الأولى، وكان سعيدا بصدورها، لكنه لم يفرح كثيرا فقد اكتشف بعدها أنه مصاب بالسرطان، ليبدأ مرحلة أخرى من حياته لم يفقد فيها الصبر والرضا، ومواجهة المحن، شأن كل الكبار والمفكرين، وكان يشعر أنه قدم ما عليه، لأفكاره وللناس.
كان المسيرى مرتبطا بجذوره فى دمنهور بمحافظة البحيرة، وهو ينتمى إلى عائلة ثرية من التجار فى دمنهور ولها أملاك فى القاهرة والإسكندرية، وأذكر أنه اصطحبنى مرة فى جولة بشارع الأزهر وأخبرنى أنه ورث عمارات فى الموسكى يومها صعدنا إلى عمارات على الطراز بوسط البلد، وكانت إيجارات المحلات والشقق جنيهات قليلة.
حكى لى الدكتور المسيرى جزءا من أحداث حياته فى طفولته وصباه ضمنها بعد ذلك فى سيرته التى أصدرها فى "رحلتى الفكرية.. البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية"، ومن أبدع ما رواه كان التقاط فكرة التكافل واختفاء الفوارق الواسعة بين الطبقات. وتوسع فى التقاط ميزة مهمة فى الطبقة الوسطى وهى التدبير والاقتصاد، وخفض النفايات والهالك، وبقايار الطعام تذهب للطيور، وبقايا الملابس تتحول إلى مفارش أو أكلمة، كان المسيرى يروى هذه الحكايات بتواضع وخفة دم، تخلو من الملل. كانت لديه درجة عالية من السخرية حتى وهو يتحدث فى أكثر الأفكار تعقيدا. وكان يحترم السؤال الجيد، مثل أى مفكر لم تمكنه موسوعيته من ممارسة هواياته، واحترام كل من يسأله، ولهذا كانت له معارف وصداقات واسعة، من بشر مختلفين، ولم يحدث أن قابلته أو هاتفته إلا وكان يفاجئنى بأفكار ومشاعر وخفة ظل وحكايات.
لم يفقد صبره ولا ابتسامته حتى فى أكثر أيام حياته ألما، وبعد أن اكتشف إصابته بالسرطان. أو وهو يواجه الإيقاف والمضايقات عندما مارس العمل السياسى فى سنواته الأخيرة، وبدا مفكرا يمارس ما يقتنع به. ومثالا للفكر الراقى والتواضع الأكثر رقيا.. الدكتور عبد الوهاب المسيرى، كل سنة وأنت طيب.