شىء آخر غير الذى ستقرؤه الآن يا عزيزى كان موجودا فى تلك المساحة.. شىء عن الذين يلعبون فى عداد عمر الوطن بنار الفتنة الطائفية كان موجودا هنا قبل أن تهزمنى العاطفة وتدفعنى للكتابة عن الدستور.. الجريدة والبشر!
أنا لا أجيد الكتابة عن الذكريات ربما، لأنها تستدعى الكثير من الأحزان إلى مخزن روحى حتى ولو كانت مفرحة، على اعتبار أن الفرح فى وقتنا هذا أصبح نادرا، وربما لأننى أخشى من السقوط فى أفخاخ الذكريات المعتادة كأن تنسى ذكر أحد أبطالها أو تذكر حدث ما يعتبره أحد أبطال ذكرياتك إساءة متعمدة، ولكن هل أصبحت الدستور بالنسبة لى مجرد ذكريات لكى أخشى الكتابة عنها؟. ربما يرى أصدقائى هناك أن الأمر أصبح كذلك منذ رحلت فى أغسطس 2008، وربما كنت أنا شخصيا مقتنعا بذلك حتى تلك اللحظة التى دخلت فيها إلى مقر الجريدة بشارع أحمد نسيم متضامنا وسعيا للاطمئنان على زملائى من غدر رأس المال المفاجئ.
دخلت إلى مكتبى القديم ووجدت لوحة خالد كساب الشهيرة فى مكانها.. وفجأة طرقت الدموع جفون عينى وخرجت مشاهد الماضى من مخزن الذاكرة لتمر أمامى كما تمر الصور على شاشة يأمرها ريموت كنترول بالتقدم للأمام بسرعة.. إنها مشاهد البداية يا صديقى أول موضوع صحفى، وأول مفاجأة مهنية فى حياتى حينما فاجأنى الأستاذ إبراهيم عيسى بتعيينى سكرتيرا للتحرير وأنا لم أصل لمنتصف الواحد والعشرين عاما فى شجاعة مازلت أحسده أعليها حتى الآن، وأول مطبخ صحفى أتعلم فيه النكهات الأصيلة للمهنة مخلوطة بالإبداع والقدرة على الابتكار بعد فترة من التجوال على صحف بير السلام ومحاولات تدريبية بائسة فى صالة تحرير الأهرام ومجلة أكتوبر، والدكتور أحمد محمود أمهر وأبرع من وضع مسطرة على ماكيت صحيفة فى تاريخ مصر الصحفى والذى ظل يدفع بى إلى الأمام حتى أصبحت على يقين أن الله وضعه لى بديلا عن والدى رحمة الله، وإبراهيم منصور ودعاء سلطان هذا التوأم الذى أحمل لهما عقدا ثقيلا من الديون فى رقبتى، وإيهاب الزلاقى وإيهاب عبد الحميد وخالد كساب وخالد البلشى، ومحمد فوزى وشادى عيسى وعاليا عبد الرءوف والجارحى وطارق ومخلوف ووليد طاهر، وقائمة طويلة من الأسماء التى شاركت فى صناعة تلك التجربة التى أطلقوا عليها لقب الإصدار الثانى من الدستور.
دقائق قليلة أمام هذا المكتب القديم ذكرتنى بكل شىء حتى مشهد الرحيل وقسوة أصدقائى وأستاذى على بعد أن اتخذت قرار الانتقال إلى تجربة أخرى لم يغب عنى، وكأن النفس التى بداخلى تريد أن تكتب نعيا لتجربة أعلم أن أهم مرحلة فيها انتهت برحيل مؤسسها، قبل أيام مما حدث كنت سعيد بحالة النشوة التى انتابت أصدقائى فوزى وتوفيق وطارق عبد العزيز بالأوضاع الجديدة التى جلبها سيد البدوى معه بعد سنوات عجاف عاشوها مع مشاكل صنعتها غياب المؤسسية ومن قبلها غياب المال، ولكن جزء من هذه السعادة كان مفقودا، لأننى كنت على يقين من أن رأس المال الجديد لن يبقى الدستور على حالها، وذلك وضع طبيعى لأن كل رأس مال له حسابات مختلفة.. وطبعا لم أتخيل للحظة أن تكون مختلفة إلى هذا الحد..
كل ما شعرت به بعد النزول من مقر الدستور هو أن الوقت الذى قضيته مع زملائى المعتصمين هناك لم يكن بالنسبة لى سوى الوداع الثانى والأخير لتلك التجربة التى نفضت التراب عن الصحافة فى السنوات الأخيرة وأعادت إليها روحها المفقودة، وكل ما كنت أتمناه لهذه التجربة بقاء أطول من ذلك أو حفل وداع أفضل من ذلك طالما أن المخرج أمر بنزول تتر النهاية.. آسف لكل زملائى هناك الذين رحلوا منها قبلى أو بعدى أو بقوا على زمتها، آسف لأستاذى وأصدقائى الذين أخذوا قرار الرحيل بعد تلك الأزمة، لأنهم عاشوا تلك النهاية القاسية.. ولا عزاء هنا أفضل من مقولة كساب.. ومين قال إن قصص الحب الأسطورية بتنتهى نهايات سعيدة؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة