قبل يومين تناولت جزءاً من سيرة المفكر الراحل عبد الوهاب المسيرى فى عيد مولده، الذى تزامن مع الذكرى الأولى لرحيل الكاتب والمفكر الدكتور محمد السيد سعيد، كلا الرجلين المسيرى وسعيد ربما كانا مختلفى الاتجاهات، وإن كانا يتفقان فى الموسوعية والنبل والشجاعة والعمل حتى اللحظة الأخيرة.
لقد ظل الدكتور المسيرى يواصل عمله ونشاطه حتى الأيام الأخيرة من حياته، مع إنه كان يُعالج من السرطان، وكان مرض السرطان قدر محمد السيد سعيد، الذى ظل أيضاً يتردد بين العلاج والعمل والدفاع حتى اللحظات الأخيرة عن مشروع صحيفة البديل التى تم إجهاضه، وكان سعيد يريده مشروعاً صحفياً مستقلاً لليسار، يخرجه من ضيق الحزبية، إلى رحابة التحرر والتعدد.
وبالرغم من أن فرق العمر بين المسيرى وسعيد يبلغ 12 عاماً، فقد كانت بينهما مشتركات واختلافات، فكلاهما عمل فى مركز الأهرام للدراسات السياسية، وكان لهما انتماءات يسارية، وإن كان المسيرى اتجه إلى الإسلام الوسطى، واتجه السعيد إلى اليسار الليبرالى التعددى، وكان قادراً على تقديم انتقادات لأفكار تيار اليسار أو الخلاف مع تيارات أخرى دون أن يخرج بالخلاف إلى العداء أو الحرب والخصومة، وكانت لدى كل منهما ـ المسيرى وسعيد ـ أيضاً قدرته على التحليل والعمل بإخلاص لتحويل الأفكار والقضايا الصعبة إلى أفكار مفهومة للشخص العادى.
هناك إجماع على شخص محمد السيد سعيد، الذى يتفق خصومه مع أنصاره وأصدقائه على أنه مفكر نبيل لم يُر مرة يضرب من الخلف أو يستخدم عيوب خصمه الشخصية فى خلاف فكرى، مفكر ليبرالى لم يخفِ يساريته أو تصوراته عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية، يعترف بالحرية للجميع ويسعى إليها ويدافع عن الحق فى التعبير والتفكير والتجربة والخطأ، وله مواقف مشهود بالشجاعة، لعل أبرزها فى معرض الكتاب عندما قدم للرئيس مطالب المثقفين فى الديمقراطية والتعدد وحاجة البلد للتغيير ولم يكتفِ بالجلوس فى طابور المستمعين، أما عبد الوهاب المسيرى فقد ظل يشارك فى تظاهرات المطالبة بالديمقراطية وتعرض للاعتقال، وهو فى السبعين من عمره ومريض بالسرطان.
أسس محمد السيد سعيد جريدة "البديل" وأخلص لها واعتبرها مشروعاً مهماً وقضية تستحق العناء، ولما تشكلت تركها لجيل شاب يثق به، وبالرغم من إغلاق البديل فى ظروف سيئة، فقد تركت بصمة كبرى، وفريقاً صحفياً محترفاً يجيد المهنة ويحترمها ويدافع عنها، وقد أعلن عدد من الزملاء أنهم بصدد إعادة موقع البديل للعمل، فى ذكر رحيل الدكتور محمد السيد سعيد، ولو حدث يصبح أمراً مهماً وتذكراً رائعاً للمفكر النبيل.
المفكرين أمثال محمد السيد سعيد أو عبد الوهاب المسيرى، وغيرهم ممن رحلوا عنا يقدمون طوال الوقت دروساً للقانطين واليائسين، حتى وهم غائبون عنا، حاضرون بأفكارهم وسلوكهم ونبلهم، بما يشير إلى أن جهدهم لم يكن هباءً، وحتى وهم غائبون يمنحونا الأمل، وربما يمثل الراحلون رداً على هؤلاء الذين يظنون أن الحياة السياسية فى مصر تجمدت وأنها لا تتحرك للإمام، بينما كل هؤلاء الراحلين النبلاء يقدمون دروسهم فى الأمل والصبر.. حتى وهم غائبون.