تحوى تعليقات القراء الكرام، على المقالات التى يخطها الكتاب والصحفيون، كنزاً ثميناً من المعارف والمعلومات عن أوضاع مصر والمصريين فى هذه الأيام الفاصلة، لذا أظن أن قراءة هذه التعليقات بإمعان توضح لنا كيف يفكر المصريون الآن؟ وما طبيعة المزاج العام لهم؟ وما هى الأمور التى تستحوذ على اهتمامهم أكثر من غيرها؟ بل يمكن الاستفادة من هذه التعليقات فى فهم كيف ستصير الأمور بعد عام أو اثنين أو خمسة! الأمر الذى يعنى أن شبكة الإنترنت وفرت لنا فرصة ذهبية لما يمكن أن يسمى "قياس الرأى العام" من خلال فحص وتمحيص هذه التعليقات.
صحيح أن النسبة التى تستخدم الإنترنت فى مصر لا تتجاوز سبعة ملايين إنسان كما تقول التقارير الرسمية، فى بلد تعداده زاد عن 80 مليون نسمة، إلا أن هذه النسبة يمكن الاتكاء عليها فى تقصى أحوال مصر والمصريين فى هذه الفترة.
أول ما يلفت انتباهنا فى هذه التعليقات أنها تعبر عن شغف المصريين بالحرية، أقصد حرية التعبير، بعد سنوات طوال من الكبت والحرمان، الأمر الذى يعنى أن الشعب المصرى الذى يقدس الحرية، قادر على التعامل مع الديمقراطية واستيعاب شروطها، بعكس ما يروج له زبانية النظام من أننا مازلنا صغاراً فى هذا الجانب!
تستدعى أيضاً تعليقات القراء الروح المرحة للمصريين وتغذيها، تلك الروح التى كادت تنطفئ فى عصر تولى فيه السفهاء منا مقاليد الأمور، فعجزوا عن إدارة البلاد بصورة تحفظ للمواطن كرامته، فلا الراتب يكفى ولا الشارع نظيف وممهد، ولا الطماطم بأسعار معقولة!
هذه بعض الجوانب الإيجابية التى يمكن استنتاجها عندما نقرأ تعليقات السادة القراء، لكن إذا حاولنا أن نتحلى بقدر من سعة الصدر سنجد أن هذه التعليقات تحتشد بمثالب وعيوب لا يصح إنكارها، وسأذكر لك بعض هذه العيوب من وجهة نظرى.
أول هذه العيوب أن قضايا "التدين" بمعناه الشكلى تنهب اهتمام معظم المصريين بكل أسف، وهو أمر يكشف قصور فهمنا للدين الحنيف الذى يدعو إلى إعمال العقل قبل أى شىء آخر عند رؤيتنا للأمور، كما يؤكد على ضرورة المجادلة بالتى هى أحسن، حيث ينفر ديننا الإسلامى القيم من التعصب ونفى الآخر.
الاستغراق فى الماضى حتى النخاع من ضمن العيوب التى تتجلى فى تعليقات القراء، حيث يلهث الناس خلف ما يقوله المشايخ والدعاة الجدد الذين يملأون الفضائيات ويجرجرون المجتمع نحو مناقشة قضايا بالية كانت تشغل أجداد أجدادنا قبل قرون، ناسين أن الزمن تغير، وأن الماضى ليس كله عسلاً وتبراً، وأننا أمة فى الحضيض على مستوى التحضر، بعد أن صرنا عالة على الغرب نستهلك ما يخترعه من أجهزة وآلات وأدوات، ولا ننتج شيئاً منذ خمسة قرون!
الهوس بكرة القدم له نصيب أيضاً، فأكثر التعليقات التى يكتبها القراء تنصب على مباريات كرة القدم، الأمر الذى يعنى أننا مشغولون "باللعب" أكثر من اهتمامنا بالجد، وأن حماسنا للكرة يفوق انشغالنا بتحسين أوضاعنا الحياتية والمشاركة فى صناعة المستقبل.
أظنك تتفق معى أيضاً على أن هناك غياباً شبه تام فى هذه التعليقات للاهتمام بالقضايا العربية، فنحن المصريون – كتاباً وقراء – منكفئون على ذواتنا بصورة لا تليق، على الرغم من أن العالم العربى جزء من أمننا القومى – شئنا أم أبينا – والاهتمام به هو اهتمام بنا أولاً، فلا مستقبل مشرق لمصر إذا كان الوضع فى العالم العربى قاتماً، ولا أمل فى غد وضاء فى القاهرة، إذا خيمت العتمة على فلسطين ودمشق وبيروت وبغداد والخرطوم!
هذه حكمة التاريخ وبديهيات الجغرافيا، ومع ذلك تمكن هذا النظام طوال أربعة عقود تقريباً من عزلنا عن أمتنا العربية، حتى صرنا نغرق فى بحر مشكلاتنا الداخلية.
تكشف أيضاً التعليقات أن هناك عدداً لا بأس به من القراء يتصف بالسلوك الخشن، فلا يتورع عن كيل السباب للكاتب والاستخفاف بما يقول، زاعماً أنه فقط من يعرف الحقيقة ويمتلك التحليل الصائب والسديد!
لا يغيب عن ذكائك بطبيعة الحال أن التعليقات توضح أيضاً أن هناك قارئاً حصيفاً ونبيهاً، فى الوقت الذى يلوح فيه قارئ آخر كسول وخامل، فالأول يقرأ بتمعن وجدية ثم يعلق، والثانى يتلو المقال بنصف تركيز ومن دون اهتمام، فيصطاد جملة من السياق لا تكفى لفهم الموضوع ليعلق عليها، فيأتى كلامه خارج القضية المطروحة تماماً!
أما أخطر ما تفضحه هذه التعليقات فيتمثل فى حجم الانتهاك التى تلقاه لغتنا العربية الفصحى على يد نفر غير قليل من القراء الكرام.
حيث تم إذلال هذه اللغة بصورة لم تحدث من قبل منذ أن أوحى الله سبحانه لرسوله العظيم بالقرآن الكريم، حيث يوجد عدد غير قليل من الإخوة القراء لا يكتبون تعليقاتهم إلا باللهجة العامية الدارجة مستخدمين المفردات السوقية والتعبيرات المبتذلة.
كما أن كثيراً من القراء الذين يحرصون على استخدام اللغة العربية الفصحى لا تسعفهم مهاراتهم النحوية والإملائية على كتابة تعليقاتهم بلغة عربية سليمة، ولن أقول جميلة، فضلاً عن أنهم لا يراجعون ما يكتبونه ويدققوه قبل إرساله للنشر، فيخرج التعليق على الناس مكدساً بأخطاء إملائية ونحوية فادحة وفاضحة.
فى ظنى أن هذه المصيبة، وهى افتقار الغالبية للقدرة على الكتابة باللغة الفصحى السليمة، يقف وراءها بؤس التعليم فى المدارس منذ عقود، ذلك أن الاهتمام بهذه اللغة يتراجع من سنة إلى أخرى ومن قرن إلى آخر، علماً بأن اللغة تمثل الهوية الثقافية لأى أمة كما هو معروف.
لا تقل لى من فضلك أن اللهجة العامية هى التى تعبر عن رجل الشارع الآن، وأن اللغة العربية ثقيلة الظل على القارئ، ذلك أن رجل الشارع هذا كان يقرأ مقالات طه حسين والعقاد وسلامة موسى ومحمد التابعى ومصطفى أمين ونجيب محفوظ وهيكل وأحمد بهاء الدين وسلامة أحمد سلامة وفهمى هويدى فى الصحف، وكلها تكتب بلغة عربية سليمة وسهلة وعميقة وجميلة.
كما أود أن ألفت انتباهك إلى أمر مهم جداً وهو أنك من المستحيل أن تقرأ مقالاً مكتوباً بلهجة خليجية أو عراقية أو سورية أو سودانية أو مغاربية.. إلخ نظراً لصعوبة هذه اللهجات علينا، فكيف تظن أن الآخرين قادرون على قراءة ما نكتب نحن باللهجة العامية؟ حتى لو كانت لهجتنا شائعة عربياً بفضل عوامل كثيرة، ثم لماذا نهدر هذا الجانب المدهش – أقصد اللغة العربية – الذى يجمعنا معاً ويوحد مزاجنا العام؟
أعرف أن هذا المقال قد يزعج الكثيرين، وأننى قد أتلقى من النقد القاسى ما يجرح الصدر، لكننى أرغب بحق فى إثارة الاهتمام بتعليقات القراء التى وفرها الإنترنت حتى نعرف أنفسنا، ونقيّم أحوالنا، فنصلح ما هو معطوب ونطور الطيب والرائع فينا.
ويا أيها الإنترنت... شكراً جزيلاً لك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة