لحظات كثيرة تمنيت فيها لو كنت أعمل فى أى مجال بخلاف الصحافة، ليس كرها فى المهنة التى أعشقها ولا أمانع فى ممارستها أطول وقت ممكن، ولو على حساب أسرتى وأولادى ونفسى.. بل كرها فى غدرها غير المعلوم الزمان والمكان.. فالعالمون بطبيعة صاحبة الجلالة، سواء فى الصحف القومية أو الحزبية أو الخاصة، يدركون تماما أنه "لا غد" ولا أمل فى المستقبل ولا أنكر أنا- رغم استقرارى مهنياً- خوفى من القادم، ولذلك قررت فلسفة الأمور وأقنعت نفسى بأن الصحفى لا يستمر فى مكان.
ما حدث مع الزميل الأستاذ إبراهيم عيسى أمر أكد اعتقادى ويقينى بأن هذه المهنة "بلا أصل" ولا مبادئ، إذ كيف للرجل الذى أسس تجربة ارتبطت باسمه وارتبط باسمها منذ ظهرت على الساحة أن يجد نفسه بين لحظة وضحاها مطرودا؟.
أعلم أن الأمر قد لا يعنى بالنسبة لإبراهيم عيسى أكثر من ألم فراق أب لابنته "الدستور" التى تحمّل من أجلها الكثير وعاش بسببها فترة من الفقر عندما توقفت عدة سنوات.. وأعتقد أن الحسرة تملؤه ليس بسبب افتقاده راتبها، الذى يتقاضاه شهريا "كبيرا كان أم صغيرا"- فعيسى وصل الآن إلى مرحلة من الأمان المعيشى يستطيع معها استمرار الحياة حتى وإن لم يشغل منصبا فى المجال الصحفى مستقبلا- وإنما لأنه شعر بالغدر والخيانة.. لعله فكر فى اللحظة الأولى لاستقباله قرار الإقالة فى ابنته منذ أن كانت جنينا ومولودا وكبرت أمامه ومعه حتى أصبحت عملاقا.. لعله تذكر أيام الفقر والبطالة يوم توقفت وتوقف معها قلمه.. لعله فكر فى حرمانه من التجول بين جنباتها.. فى غرفها.. فى التحدث إلى مساعديه وأبنائه المحررين أو التشاجر معهم أحيانا كثيرة.. فكر بلا شك كيف كانت تخرج الدستور لتنافس بمقاله فقط وبأقل التكاليف المادية.. لعله فكر فى كل شىء واعتصره الألم حتى حرمه من النوم.. فالرجل لأول مرة يودع ابنته وإلى الأبد.. يبتعد عن زملائه ربما أيضا إلى الأبد.. إنها مأساة بكل المقاييس لرجل عشق المهنة وأتقنها وبرع فيها.
لا أحد يجهل أن "الدستور" هى إبراهيم عيسى وإبراهيم عيسى هو "الدستور" ولا أحد يتصور كلاهما بدون الآخر.. ولا أعتقد أنها بدونه ستستمر، وإن استمرت حتما ستكون مريضة وحتما ستلقى حتفها ألماً لفراق والدها وعشيقها إبراهيم عيسى.
إن الذى ينجب له حق الامتلاك، طالما أنه نجح فى التربية وطالما أن المولود ارتبط باسمه، لكن أن يحرم إنسان من نجاحه فهذا هو الظلم بعينه وهو الظلم الذى يطارد كل الصحفيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة