دعنا نحدد أولاً ماذا نقصد بكلمة "دولة" حتى يمكن لنا أن نعرف كيف ذهبت هذه الدولة مع الريح؟ ومتى؟
الدولة باختصار، كما يقول أهل الاختصاص، هى مجموع المؤسسات الحكومية والقانونية التى تدير شئون البلد، وتحافظ على تماسكه وتستهدف تطويره وتقدمه نحو آفاق أرحب، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسى لهذه الدولة. فالدولة الإنجليزية مثلاً تمتاز بنظام سياسى ملكى يخالف النظام الجمهورى فى الدولة الفرنسية... وهكذا.
أما عندنا فى مصر، وفى العالم العربى كله بشكل عام، فإن مفهوم الدولة لم يترسخ بما يكفى حتى الآن، نظراً لشيوع ثقافة القبيلة والعائلة وحكم الفرد، فى الوقت الذى يتراجع فيه الاحتكام إلى القانون، كما تخبو فضيلة الاتكاء على المؤسسات!
ومع ذلك، فقد حاول المصريون بدءاً من عهد محمد على ثم الخديوى إسماعيل فى القرن التاسع عشر أن ينشئوا دولة عصرية بالمفهوم الحديث، تنهض على مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، تدعمها مؤسسات أهلية تهتم بشئون الفن والأدب والثقافة والإعلام.
أقول لقد حاولنا نحن المصريين الخروج من كهوف العصر المملوكى والعثمانى الذى يستند على حكم الفرد، لندخل بساتين الحضارة ونؤسس دولة مدنية وفقاً للمفهوم الحديث، وبالفعل سعى مفكرونا ومثقفونا إلى التبشير بهذه الدولة وضرورة قيامها منذ محمد عبده وطه حسين والذين معهما، كما حاول بعض حكامنا، كلاً قدر قناعاته وقدراته ومواهبه، تعزيز هذا المفهوم.
الحق أن هذه الدولة العصرية التى كنا ننشدها لم تستكمل مقوماتها قط، بل أخذ بنيانها، الهش أصلاً، فى التصدع منذ أربعة عقود تقريباً، ثم راح يترنح منذ نحو عشرة أعوام .أما الآن، فأغلب الظن أن الدولة المصرية ذهبت مع الريح!
لماذا؟
انظر حولك لترى كيف وصل البؤس بمؤسسات الدولة، بعد أن نهشها سوس الفساد من ناحية، وبعد أن تكثفت كل طاقات هذه المؤسسات من أجل هدف واحد ووحيد يتمثل فى حماية النظام السياسى فقط، أو بتعبير أدق حماية السيد الرئيس ورجاله. الأمر الذى أدى إلى تعطيل عمل معظم هذه المؤسسات باستثناء مؤسسة الأمن التى تتصدى لمهمات أكبر من إمكانياتها، ولا تتفق وطبيعتها بهدف حماية هذا النظام المترهل.
فما حدث على سبيل المثال، فى منطقة العمرانية خلال الأيام الماضية يؤكد غياب الدولة، إذ وصل الأمر إلى أن المؤسسات الرسمية لا تعرف كيف توفر للأخوة المسيحيين حقهم فى التمتع بالعبادة داخل كنائسهم، بعد أن أصبح بناء كنيسة أمراً يستلزم إجراءات معقدة تفاقم من شعورهم بالاضطهاد فى بلدهم. ترى كم من مرة طالب الشرفاء والأذكياء فى هذا البلد بضرورة إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة يفرض على الجميع مسلمين ومسيحيين؟ ومع ذلك لم تستجب الدولة لهذا الطلب العادل، حتى بات الحريق الطائفى على مرمى حجر من الوطن.
خذ هذه أيضاً... كيف يمكن، لو كانت هناك دولة بحق، أن يقطع ألف شاب الطريق الدائرى، احتجاجاً على تعنت الأجهزة الرسمية وهو ما حدث فى موضوع كنيسة العمرانية؟
حسناً... أين الدولة إذن؟ إنها هناك... مشغولة بالانتخابات ومطاردة الإخوان المسلمين واعتقالهم، ورفض تنفيذ الأحكام القضائية التى صدرت ببطلان إجراء الانتخابات فى عدد كبير من الدوائر.
نعم... الدولة هناك حيث تم اختزالها فى حزب حاكم بائس وجهاز أمنى مسكين لا حول له سوى تنفيذ رغبات من بيدهم الأمر والسلطان. نعم... الدولة هناك حيث لا سلطة قضائية مستقلة تحظى بالتقدير الواجب، فيتم احترام أحكامها (هل تذكر كيف رفضوا الحكم الصادر بإلغاء الحرس الجامعى وماطلوا فى تنفيذه ومازالوا؟). ولا إعلام مستقلا قادرا على ممارسة دوره من دون بطش أو تهديد.
نعم... الدولة هناك تقبع خجلى فى ركن ضيق فى قصر السلطان تنتظر أوامره، نعم سنقوم بإخراج فيلم الانتخابات بشكل مثير حتى يشعر الناس فى الخارج والداخل، والخارج أولاً، أننا نقدر الديمقراطية ونحترمها كما طلبت سيدى السلطان. نعم... سنعمل جاهدين على أن يبدو الأمر وكأن الحزب الوطنى قد دخل معركة شرسة وطاحنة من أجل الفوز فى الانتخابات كما أمرت سيدى السلطان. نعم... سنخصص عدداً محدودا من المقاعد لأصدقائنا فى المعارضة حتى يطمئن الجميع أننا نتمتع بحسن السير والسلوك الديمقراطى كما أشرت سيدى السلطان. نعم... فلتسافر تصحبك السلامة إلى أى البلاد، وتأكد أن الأمور كلها تسير وفق ما تشتهى سيدى السلطان.
نعم.. إنهم يقولون إن مؤسساتنا قد اعتراها العطب، وأن الخراب طال حتى جدرانها المهترئة، كما أنهم يؤكدون، ومعهم حق، أن الشعب اختنق أكثر مما يجب، وأن الدولة المصرية ذهبت مع الريح، فقد باتت مشلولة أمام تقسيم السودان المنتظر، وأخفقت فى الحفاظ على حصتها فى مياه النيل، ولكن لا تقلق سيدى السلطان، فقصرك الباذخ مكتمل الأركان ولن يتعرض للتقسيم، كما أن المياه العذبة لن تنقطع منه قط، لأن الأمن نشط ومتيقظ، فكن خالى البال، ونم مطمئناً سيدى السلطان!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة