هذه محاولة، غير مدفوعة الأجر وبريئة من قوالب المجاملة المعروفة، لإنصاف صوت إعلامى مهنى هادئ فى زمن أصبح فيه الصراخ والقدرة على افتعال "خناقة" على الهواء ماركة مسجلة؟.. ويمكنك أن تلحق لهدف الإنصاف هذا هدفا آخر هو الرغبة فى الكتابة عن شىء إيجابى ومميز فى وقت لم تعد فيه الأقلام تخط حروفا إلا حول كل ما هو سلبى..
الصوت الإعلامى المطلوب إنصافه هنا هو القدير يسرى فودة، ليس فقط لأنه يمتلك دفتر نجاحات إعلامية دولى وهو أمر فريد حينما تبحث فى قائمة الإعلاميين المصريين، وليس فقط لأنه يحظى باحترام وتقدير المؤسسات الإعلامية فى أوروبا وأمريكا بقدر يفوق ما يحظى به من تقدير فى مصر.. ولكن لأنه أصبح نموذجا للحال الإعلامى أو الفضائى المقلوب فى مصر، لأنه أصبح ضحية جمهور تم تدريبه على أن الصراخ والهتاف والسباب والشتائم واستدعاء الدموع وادعاء الحديث باسم الغلابة هى الخلطة الإعلامية الناجحة وكل ما سواها إعلام باهت وفاشل..
هى فى الحقيقة محاولة لإنصاف جانب مشرق فى تلك المهنة وخط إعلامى جاد ومهنية توشك أن تنقرض أمام طوفان صانعى برامج الفضائح والاتهامات الساخنة قبل أن تكون محاولة لإنصاف يسرى فودة..
زميلى العزيز محمود سعد الدين هو الذى فتح، دون أن يدرى، الباب لضرورة وواجب إنصاف يسرى فودة حينما قال إنه مندهش أن برنامج "أخر كلام" الذى يقدمه يسرى فودة على قناة "أون تى فى" لا يحظى بالضجة المناسبة لاسم الرجل وأهمية ما يقدمه من قضايا يتفوق فى عرضها بجوانبها المختلفة عن ما نشاهده فى بعض برامج التوك شو.. وضعت أمامى كل التبريرات الممكنة بداية من أن محطة "أون تى فى" جديدة وواعدة ولكنها ليست بالتأكيد فى شهرة "الجزيرة" ومرورا بأن الإنتاج الذى يحظى به "آخر كلام" بالتأكيد لا يساوى واحدا على عشرة مما كانت تنفقه الجزيرة على "سرى للغابة" برنامج فودة الأكثر شهرة على الإطلاق، وانتهاء بتبرير أخير يقول باحتمالية أن يكون يسرى فودة قد أخطأ فى مكونات خلطة برنامجه الجديد ودمجها معا بالصورة التى تجلب له النجاح اللائق، ومع الاحترام لكل هذه التبريرات التى يبدو أولها وثانيها منطقيا للغاية إلا أنها لم ترقى لمستوى قناعاتى حينما طرحت بجوارها تبريرا آخر يتعلق بالمهنة ويقول بأن خطأ يسرى فودة الحقيقى هنا لا علاقة له بمقادير خلطته الإعلامية التى تتأكد من حلاوتها حينما تتابع حلقات برنامجه "آخر كلام" ولكنه يرتبط بشكل أساسى باختيار فودة لخط إعلامى ومهنى احترافى وموضوعى ومحترم قائم على الحوار وتقديم المعلومة الصحيحة ووجهات النظر المختلفة فى زمن لا يعلو فيه صوت إعلامى على أصوات برامج النكتة والصرخة والتجارة بأحلام وأمراض ومآسى الفقراء..
الأمر هنا لابد أن يبدأ بإشارة بسيطة إلى حال الفضائيات المصرية، وتحديدا البرامج الحوارية أو برامج التوك شو التى رسخت لمفهوم إعلامى أعور يقول، بأنه كلما اشتبك ضيوف الاستديو وعلت أصواتهم بالاتهامات وفشل مقدم البرنامج فى إيقاف تلك المهزلة يكون قد نجح فى صناعة حلقة ناجحة أو "سخنة" طبقا للتعبير الفضائى السائد الآن، وبناء على المفهوم السابق وطبقا لدرجة حرارة الطبخة الإعلامية لا يصح أن نطرح أسئلة من نوعية ما هى الرسالة الإعلامية؟ وهل هذا هو الإعلام الحقيقى؟ وهل هذه هى الموضوعية والمهنية؟ وهل هذا فى مصلحة المشاهد أو الوطن؟ ولا يصح أن تسأل أيضا هل المذيع الحقيقى أو مقدم البرامج الناجح هو الشخص الأكثر معرفة والأكثر قدرة على إدارة حوار وعرض مفاهيم ومناقشة قضية أم أنه الشخص الأكثر قدرة على افتعال "خناقة" على الهواء مباشرة وتشجيع كل طرف من ضيوف قضية نقاشه على أن يلقى فى وجه الآخر بعض الشتائم المتاحة رقابياً والكثير من الاتهامات المتاحة سياسياً من خلال عملية "تسخين" متعمدة تبدأ من لحظة اختيار الضيوف والحرص على كونهم من معسكرين مختلفين ومن مدمنى الصراخ وباحثين عن الانتصار فى المعركة الكلامية قبل البحث عن الحل..
هذا هو حال الفضائيات المصرية، وهكذا أصبح بعض نجوم الصفوف الإعلامية الأولى فى مقدمة المشهد فى عملية استغلال بشعة للمواطن المصرى زادت حدتها فى السنوات الأخيرة وكأنها عملية تدريب للمواطن أو المشاهد المصرى على أن الهتاف أهم من التفكير، والتراشق اللفظى أهم من الحوار العاقل، والانحياز السافر بدون مبرر أهم من الموضوعية فى طرح الآراء، والقدرة على "الشقلبة" وإلقاء النكت والصراخ على الهواء أهم بكثير من تقديم المذيع أو المقدم المحترم لطرح عقلانى ومعلومات مفيدة للقضية محل النقاش.. على هذا الحال تم تدريب أغلبية المشاهدين طوال الفترة الماضية وبناء على هذا التدريب أصبحت الأصوات الإعلامية الهادئة والعاقلة والمحترمة والمهنية والمحترفة والموضوعية تشكل لغز للكثيرين.. هل اختفت أم خف بريقها؟ ولماذا لا تحقق برامجها الضجة المنشودة؟.
يسرى فودة هو أحد هذه الأصوات الإعلامية التى ظلمتها العشوائية الإعلامية التى نعيشها، هو أحد هذه الأصوات التى ظلمها انحيازها للمهنة والطرح الموضوعى للقضايا والأفكار بعيدا عن صناعة معارك كلامية بلا هدف ولا قيمة، انظر إلى ما قدمه أو ما يقدمه يسرى فودة فى برنامجه "آخر كلام" أو ما يكتبه فى مقالاته المختلفة وستعرف أن الرجل الذى حقق نجاحات إعلامية مبهرة فى قناة الجزيرة وهيئة الإذاعة البريطانية وتليفزيون وكالة أنباء أسوشييتد برس يسير على نفس خطاه القديمة، ولكن للأسف فى بلد فضاؤه الإعلامى لا يعترف بالمهنية والموضوعية والاحتراف ولا يستمتع إعلامياً إلا بقصص النميمة والخناقات والتجارة بآلام الفقراء.
راجع حلقات "آخر كلام" وستجد المفهوم الحقيقى لعرض الرأى والرأى الآخر وستجد ضيوفاً لم يعتد إعلامنا الاهتمام بها لأنها، وعلى الرغم من أهميتها، ليست من النوع الـ"سبايسى" الذى يجذب جمهور الدرجة الثالثة، فى "آخر كلام" تظهر ضيوف تملك معلومات وتحظى بالاحترام ولديها ما تقدمه للمشاهد غير الشتائم وتوزيع الاتهامات، فى "آخر كلام" ظهر "مايكل شوير" رئيس وحدة متابعة بن لادن فى المخابرات الأمريكية وقدم تحليلات رائعة للموقف الأمريكى من بن لادن والقاعدة وظهر روبرت فيسك وغيرهم من رجال السياسة الأشهر فى أوروبا وأمريكا، وأذاع لأول مرة فى انفراد حقيقى ضمن حلقة الذكرى التاسعة لهجمات 11 سبتمبر فيديو حصرى لأول مرة يظهر فيه المتهم الأشهر المصرى محمد عطا، بالإضافة إلى شريكه الرئيسى اللبنانى زياد جراح فى ضيافة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن فى أفغانستان قبل نحو 9 أشهر من تنفيذ العملية الكبرى، وقدم حلقات رائعة ومتكاملة عن الألغام فى مصر وعن الذكرى 28 لتحرير سيناء وعن النيل وعن السودان.. كل هذا وأكثر منه قدمه يسرى فودة فى "آخر كلام" وكان خطأه الوحيد هو الامتناع عن الاشتراك فى هذا السباق الفضائى الهزلى الذى يحول رجال الإعلام إلى "أراجوزات" كل مهمتهم هى تسلية المشاهد حتى ولو كان السبيل هو الترتيب لمعارك مسبقة بين الضيوف أو استغلال أحزان أسرة بلا مأوى أو مريض يبحث عن قشة تنقذه من أمواج بحر المرض..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة