لا أدرى إن كنت قد انتبهت إلى أن ظاهرة الإقبال المتزايد من قبل البنات على تدخين الشيشة له علاقة وثيقة بانتخابات مجلس الشعب الوشيكة أم لا؟ ذلك أنها ظاهرة ترتبط بصورة مباشرة بالأوضاع السياسية البائسة فى مصر، وسأشرح ذلك بعد قليل.
فى البداية علينا الإقرار بأن الكل يعرف أن التدخين ضار جداً بالصحة للجنسين رجالاً ونساءً، سواء كان هذا التدخين عن طريق السيجارة أو الشيشة. كما علينا أن نتفق على أن جميع من يدخنون – شباب وبنات – يدركون تماماً أنه سلوك مرذول وأنه يخرّب جسد الإنسان السليم. ومع ذلك يعترى المرء العجب حين يرى البنات تقبل على تدخين الشيشة بشراهة لم تحدث فى تاريخ مصر من قبل.
لاحظ من فضلك أن المرأة المصرية تعاملت مع السيجارة، ولم تجد فيها لا هى ولا الرجال، سلوكاً مستهجناً بعد ثورة 1919، خاصة المرأة ابنة الارستقراطية، تلك الطبقة التى تكونت مع مطلع القرن العشرين، والتى اتخذت من مثيلاتها فى أوروبا أسوة حسنة ينبغى محاكاتها وتقليدها فى كل شىء تقريباً.
وهكذا صارت السيجارة التى تتراقص فى فم المرأة تعبير عن انتماء لطبقة معينة.. طبقة ثرية لا تفرق بين دخان السجائر الذى ينفثه الرجال أو النساء. (ليتك تتابع أفلام الثلاثينيات والأربعينيات لترى كيف كانت عزيزة أمير وعقيلة راتب وراقية إبراهيم وميمى شكيب وزوزو نبيل وغيرهن كثيرات ينفثن دخان سجائرهن فى وجوه يوسف وهبى ومحسن سرحان ومحمود ذو الفقار وأنور وجدى وهن جالسات فى صالونات القصور الباذخة).
أما الشيشة، فقد ظل تناولها مقروناً بالرجال فقط، وتحديدا هؤلاء الذين يقطنون الأحياء الشعبية، والذين حرمتهم المقادير من التعليم فى الأغلب. باختصار اقتصر التعامل مع الشيشة على "المعلمين" أصحاب المحال والورش الصغيرة، علاوة على بعض العمال والصنايعية.
فلما هل زمن السبعينيات انقلبت الأحوال فى مصر رأساً على عقب، وزادت حيرة الناس حول حاضرهم ومستقبلهم خاصة مع مفاجآت السادات السياسية، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية. ومع ذلك لم تقترب البنات من الشيشة. وظل التعامل معها أمراً يخص الرجال فحسب، إذا استثنينا نساء الطبقة الشعبية المستقويات (المعلمات). لكن الآن باتت الأمور أكثر سوءاً، فانعدم الأمل تقريباً فى مستقبل أفضل فى ظل نظام سياسى مستبد وغليظ القلب، كما تكدست الثروة الطائلة فى أيدى قلة من الأثرياء الجدد، فى حين تكابد الملايين أوضاعاً اقتصادية مزرية.
لا يغيب عن القارئ الذكى أننا نحن المصريين لم نصدق أبداً حكاية الانتخابات التى يمكن أن تأتى بنظام ديمقراطى حقيقى منذ أن ارتكب قادة يوليو خطأهم القاتل وألغوا الأحزاب السياسية، الأمر الذى أدى إلى اغتيال جنين الديمقراطية الذى بدأ فى التخلق عقب ثورة 1919. فقد أصبحت أى انتخابات فى مصر بعد 1952 معروفة النتائج سلفاً، حيث يجب أن تكون على هوى النظام، فلا توجد أى فرصة لتداول السلطة، ولا هناك أى رغبة لتحسين أوضاع الناس من قبل حكومات آلت على نفسها أن يظل الشعب المصرى أسيراً للخوف والفقر!
هنا بالضبط برزت ظاهرة إقدام البنات على تدخين الشيشة، خاصة هؤلاء اللاتى نلن حظاً لا بأس به من التعليم، حيث أصبح من السهل أن تخرج الفتاة من منزلها للدراسة أو للبحث عن عمل (فى ظل تفاقم أزمة البطالة فى العقد الأخير). ولأن لا أمل فى الحصول على وظيفة، ولا أمل فى العثور على زوج، ولا أمل فى مستقبل أفضل مادام هذا النظام يذبح الناس يومياً بسكين الاستبداد وخنجر الإفقار، تجد الفتاة ضالتها فى الجلوس داخل المقاهى مع صديقاتها (مثلما جلس الشباب قبلها يأساً)، لتبدد وقتها وتلعن الزمن وهى لا تجد غضاضة فى تدخين الشيشة، لأن الأيام عنيدة والحظ عاثر.
وهكذا ستأتى انتخابات مجلس الشعب، ولن يلتفت إليها الناس التى ترى كيف ضاق صدر النظام بهامش الحريات الإعلامية التى انتزعها الصحفيون المصريون ببسالة خاصة فى الأعوام الأخيرة، وكيف راح يطفئ أنوار القنوات الفضائية، بعد أن سدد لجريدة "الدستور" طعنة فى القلب لأنها تجرأت وقالت ما لا يجب أن يقال!
أما البنات الجميلات فقد اندفعن فى السنوات الأخيرة نحو ظاهرة التدين الشكلى (وضع الحجاب واستخدام السلام عليكم فى التليفون بدلاً من آلو...الخ)، ظناً منهن أن هذا هو الدين الذى سيمنحهم الاتزان النفسى المفقود فى ظل مناخ قاتم ومستقبل معتم. كما وجدن فى تدخين الشيشة فرصة للتحرر المزيف الذى يوهمهن أنهن أصبحن مثل الشباب: عاطلات ومدخنات!
أرأيت كيف أن الصخب الذى يدور حول الانتخابات الآن لن يمنع البنات (ولا الشباب) من الجلوس على المقاهى لتناول الشيشة وإطلاق سحب الدخان من أنوفهن وأفواههن يأساً وعجزاً، وهن يتأملن لافتات المرشحين للانتخابات بلا مبالاة؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة