طالعتنا الأخبار بنبأ إصدار اتحاد النقابات الفنية، الذى يضم الممثلين والسينمائيين والموسيقيين، بيان يستنكرون فيه وجود منتجة إسرائيلية بين ضيوف مهرجان أبو ظبى السنيمائى، الذى انتهى منذ أيام، اعتبرت النقابات الفنية وجود هذه المنتجة وفيلمها "الغرب هو الغرب"، بل فوزه بجائزة الجمهور نوعاً من التطبيع، وبالتالى يحرم على أى فنان ينتمى لهذه النقابات التعامل مع هذا المهرجان، إلا إذا أعلنت إدارة المهرجان، التى يترأسها المخرج الأمريكى بيتر سكارليت أعذارها وجهلها بكون هذه المنتجة إسرائيلية.
وتبارى الزملاء الصحفيون وبعض من المثقفين فى شجب، ورفض الفعلة الشنعاء لمهرجان أبو ظبى.
هذا كان ملخصاً لما خرجت به الصحف خلال يومين حول هذا الخبر، وعلى الجانب الآخر، لم يصدر من مهرجان أبو ظبى أو من أى مؤسسة أخرى تابعة للمهرجان أى تعليق، اللهم إلا مقال منشور على موقع ميدل إيست نيوز يرد على هذه الحملة الصحفية، بأن نقباء الفنانين فى مصر يهاجمون مهرجان أبو ظبى بسبب فشل المهرجانات المصرية، ولا أتمنى بالتأكيد بما أكتب أن أدخل طرفاً فى سجال أن مهرجاناتنا أحس من مهرجاناتكم، أو أننا أكثر وطنية من رجال أبو ظبى، أو أن أحكى عن دماء شهداء أكتوبر المصريين وأبكى عليهم، لأنه فى ذات الشهر بعد عقود تستضيف أبو ظبى مخرجة تعترف أنها إسرائيلية وتمنحها أبو ظبى جائزة الجمهور وهى 30 ألف دولار.
كل ما سبق ذكره من السهل أن أقوله وأشعل حماس القراء وأرفع صوتى بالوطنية وبالروح والدم وأجد آلافاً، بل ملايين يقولون عنى بطلة فى زمن أبطال وبطولات الكلام.
ولكن للحق لا أستطيع بحال من الأحوال أن أصفق لأصحاب قرار مقاطعة مهرجان أبو ظبى، ليس لأنى من رواده، فأنا لم أحضر إلا دورته الأولى، ولم أذهب ثانية، لكننى أتمنى أن نناقش الأمر بمنطق بعيداً عن المزايدات، لأن استخدام التطبيع بحق صار بغير معنى فى استخداماتها الحالية.
تعبير التطبيع جاء فى مطلع الثمانينات بعد توقيع اتفاقية السلام، لكن كل أطياف الشعب كانت ومازالت ترفض تعامل الإسرائيليين فى كافة المجالات، واستخدمت ورقة التطبيع فى حينها كورقة ضغط شعبية على العدو الإسرائيلى.
ورغم أن إسرائيل تغلغلت فى حياة المصريين، سواء من خلال بعض النخبة الاقتصادية، الذين تعاملوا معها فى مشروعات زراعية وغيرها، وكثير من رجال الأعمال الذين نعرفهم بالاسم يصدرون ويستوردون بضائع إسرائيلية موجودة فى الأسواق، ولست بحاجة لأن أذكر أن ما من مسئول فى هذا البلد إلا وله لقاءات وتعاملات مع إسرائيل.
ورغم كل هذه السنين، التى جرى فيها كثير من المياه، ظلت تهمة التطبيع دون تعريف محدد سيفاً على الرقاب وشهره حين نريد، ونضعه فى غمده حين نضعف أمام المطبقين وخلطنا الأوراق.
فصار حين نترجم كتباً إسرائيلية نتهم مترجميها بالتطبيع، ومتناسين المقولة الشهيرة "أعرف عدوك"، وصار سفر فنان إلى رام الله أو غزة المحتلة وتقديمه لحفل عنائى فى مهرجان سينمائى تنظمه السلطة الفلسطينية تطبيعاً، مثل هند صبرى، وحتى مشاركة فنان فى فيلم أمريكى أو بريطانى يكتشف أن أحد ممثليه إسرائيلى يعد تطبيعاًَ، مثل خالد النبوى، وأخيراً اتهمنا عمرو واكد، لأن مسلسله الإنجليزى عرض فى إسرائيل، وكأنه صاحب اتفاق العرض.
للأسف لقد فرغنا كلمة التطبيع من معناها الحقيقى، وصارت مجرد تهمة جوفاء يستخدمها البعض للمزايدة على الوطنية والحمية.
وأخيراً تأتى قصة مهرجان أبو ظبى ومقاطعته لتؤكد ما أقوله، فالمنتجة ليزلى يودوين هى إنجليزية من برمنجهام، وتعيش حالياً فى أستوكهولم، وهى ممثلة ومنتجة قدمت فيلم "الشرق هو الشرق"، وهو فيلم جيد جداً، ثم تلته بفيلم "الغرب هو الغرب" كجزء ثانٍ، والذى عرضته فى مهرجان أبو ظبى وليس هناك ما يشير فى أى من بياناتها أو ما هو مكتوب عنها أنها تنتمى لإسرائيل من قريب أو بعيد، أما كونها هى التى أعلنت ذلك فى مؤتمر صحفى، فهذا ليس تواطؤاً من المهرجان، لأنها منتجة إنجليزية شاركت بفيلم إنجليزى، فهل كان مطلوباً من إدارة المهرجان أن تأتى بسلسال أفكارها وشجرة عائلتها؟ يا سادة تلك مزايدات لا يصح أن يقع فيها أصحاب الصوت العالى فى هذا البلد.
للأسف دائماً نخسر معاركنا، لأننا لا نوجه سهامنا فى الطريق الصحيح.
إسرائيل تعرفنا بمنطق الكبار، فهى تعرف عنا ماذا نأكل ونشرب؟ وكيف ننام؟ وقبله كيف نفكر؟ وحتى نكاتنا التى نضحك عليها فى الوقت الذى نحن نقاطعها بمنطق الأطفال، وكأننا نقول لها إحنا مخاصمينك، ولا نريد أن نعرف عنها شيئا، لأن الأسهل أن نقاطعها ونعيش بمنطق أنها غير موجودة.
الحقيقة أن إسرائيل مزروعة فى جانبنا ترقبنا عن كثب، ونحن نرفع شعار عدم التطبيع، الذى يجعلنا نغطى أعيننا عنها، وهو عين الخطأ.
والأهم إن كانت النقابات الفنية قررت مقاطعة مهرجان أبو ظبى، فأذكر بأن عليهم مقاطعة وزير الثقافة وكافة الرؤوس الكبرى فى هذا البلد، لأنهم مطبعون "بمنقط الطفولة"، فهل هم فاعلون؟