سعدت كثيرا لذهاب جائزة الرواية هذا العام إلى الروائى الليبى إبراهيم الكونى، لأنه كاتب كبير، ويستحق أن تمنحه القاهرة (عاصمة الرواية العربية) أرفع جوائزها، لأنه استطاع من خلال مفردات تبدو صغيرة أن يقدم عالما شاسعا وشجيا، بروح متأمل ولغة رائقة تشهد عليها «التبر» و«نزيف الحجر» و«رباعية الخسوف» و«السحرة»، وغيرها من الأعمال، قبلها بأيام فرحت أيضا بذهاب جائزة نجيب محفوظ إلى ميرال الطحاوى عن روايتها الفاتنة «بروكلين هايتس»، وسعدت بكلمتها البسيطة والطموحة والصادقة التى استمعت إليها فى الجامعة الأمريكية التى منحتها الجائزة.
ولست هنا بصدد الحديث عن الأعمال الفائزة، لأننى عندما قرأت كلمة الكونى على منصة التتويج (فى الجمهورية)، كنت قبلها بساعة قد فرغت من قراءة كلمة ماريو باراجاس يوسا على منصة نوبل هذا العام، كنت أنتظر من الكونى حديثا عن عالمه وأساتذته وطفولته وطموحه للكتابة ولبلده، وأن تكون لغته شبيهة للغة أدبه، لكن الاستهلال الذى أخذه من كتاب الموتى «قدر الرجال فى هذه الدنيا ألا يذوقوا طعما للسعادة ما لم تكن مجبولة بنصيب من كآبة»، ثم استشهاده بإيمانويل كانت «بأننا لا نأتى إلى الدنيا لننال السعادة، لكننا نأتى إليها لندفع الدين»، واعتبر أن الجوائز لا تخلو من روح تأبين، معتبرا نفسه شهيدا على قيد الحياة، ولم ينس أن يذكرنا بأن هناك شهداء حقيقيين وآخرين مزيفون.
فى المقابل جاءت كلمة يوسا التى ترجمها أحمد عبداللطيف فى أخبار الأدب احتفالا بالكتابة وجدواها، لأن الأدب من وجهة نظر صاحب حفلة التيس وامتداح الخالة تمثيل خادع للحياة، ومع ذلك يساعدنا بطريقة أفضل على فهمها، وعلى توجيهها فى المتاهة التى نولد فيها ونحيا ونموت، الأدب يصحح لنا النكسات والإخفاقات التى تلحقها بنا الحياة الحقيقية، الجيد منه يشيد جسورا بين أناس مختلفين، كلمة يوسا على منصة التتويج، أكدت أنه بدون الخيال سنكون أقل وعيا بأهمية الحرية، ولهذا تخاف كل الأنظمة المستبدة من الخيال إذا تحرك فى الكتب، ومن المشاغبات التى تحدثها الفانتازيا عندما يقارن القارئ بين الحريات التى تجعلها ممكنة، والتى يمارسها هو بظلامية وخوف يتربصان به فى عالمه الواقعى، تحدث يوسا عن طفولته وأساتذته وأقاربه وزوجته وطقوس الكتابة والمدن التى احتمى بها، وعن وطنه بيرو الذى هدد فى وقت ما بسحب جنسيته منه، وعن تحولاته السياسية، كلمة صادقة غير متحذلقة، تشير إلى كاتب يعيش فى زماننا ويقرأ المشهد بروح الذى يسعى لسعادة البشرية.
يوجد فرق كبير وجوهرى بين طريقة تفكير الرجلين وإحساس كل منهما بالنصر (الفوز)، يوسا الذى أعاد نوبل إلى أمريكا اللاتينية بعد عشرين عاما يعرف أن الخيال أكثر من تسلية، أكثر من ممارسة عقلية تشحذ الإحساس والروح، إنه ضرورة لا غنى عنها لكى تواصل الحضارة وجودها، لتتجدد وتحدث فينا أجمل ما هو إنسانى، حتى لا نعود إلى همجية العزلة، وتتضاءل الحياة فى براجماتية المتخصصين الذين يرون الأشياء بعمق، لكنهم يجهلون ما يحيط بها، ولم يلجأ يوسا كما فعل إبراهيم الكونى إلى الفلاسفة واللغة القديمة، لكى يقول كلاما مبهما يخلو من التواضع. > >