هذه الانتخابات مختلفة..! تلك نتيجة لا يمكن إنكارها، واختلافها لا ينبع فقط من بئر تقفيل اللجان وتسويد البطاقات الذى غرقت فيه الانتخابات، ولا حتى من سحابة البلطجة التى ظللت أحداثها، بل جزء كبير من هذا الاختلاف يعود إلى حالة عدم الكسوف التى تلبست القائمين على العملية الانتخابية ودفعتهم لأن يضعوا كل الخطط التى تمكنهم من اكتساح المعركة والفوز بأغلبية البرلمان بغض النظر عن كمية ونوعية المخالفات والجرائم اللازمة لإنجاح ذلك، وهل يوجد دليل على تلك الرغبة أقوى من فكرة ترشيح 9 وزراء دفعة واحدة فى الانتخابات الحالية وهو أمر تم معه مخالفة الكثير من القوانين والأعراف وضرب بعض المواد الدستورية فى مقتل وإعدام مبدأ تكافؤ الفرص سواء داخل البرلمان أو فى ساحة التنافس الانتخابى أو حتى داخل مجلس الوزراء نفسه؟
وسط اتهامات التزوير والبلطجة والأجواء الضبابية للعملية الانتخابية تاهت قضية ترشيح الوزراء فى انتخابات البرلمان وتاهت جرائمها القانونية والأخلاقية والسياسية كما تاهت نوايا ترشيحهم والأسباب الرئيسية من وراء ذلك، كان واضحا من البداية غرابة ترشيح هذا الكم الهائل من الوزراء فى إنتخابات كان معروف مسبقا أن للحزب الوطنى النصيب الأكبر فيها، غير أن المؤشرات السياسية والعديد من المراقبون ذهبوا فى تحليلاتهم إلى أن الحزب الوطنى استخدم الوزراء كما يستخدم لاعبو الشطرنج البيادق أو العساكر بالمفهوم الشعبى، استخدمهم كأدوات تضمن له نتائج 9 دوائر انتخابية كبرى قبل بدء المنافسة، وتجعل له داخل البرلمان المزعج إعلاميا باستجواباته وطلبات إحاطته قدما راسخة قادرة على أن تصد الهجوم أو تمنعه من الأساس إما بتكوين صداقات مع النواب أجمعين بحيث يصبح من الصعب على النائب أن يتهم أو يستجوب وزيرا هو فى الأصل زميلا يجلس بجواره على نفس المقعد، وإما عن طريق رد غضب النواب وملاعبتهم وشغلهم بالحصول على تأشيرات الوزراء وتوقيعاتهم على التصريحات الخدمية لأهالى الدائرة، وعند تلك النقطة تحديدا لابد أن نتوقف لنعترف بعبقرية رفع نسبة الوزراء النواب داخل المجلس، فمن خلال المتابعات الإخبارية لجلسات البرلمانات السابقة يتضح أن وجود وزير واحد للاستجواب أو المساءلة داخل البرلمان يقلب جو الجلسة تماما بسبب انشغال النواب بالوصول إلى سيادة الوزير من أجل الحصول على تأشيرة ما أو تصريح ما أو تمرير مصلحة معينة، وبناءً على ذلك لك أن تتخيل شكل تأثير وجود 9 وزراء دفعة واحدة داخل البرلمان .. ببساطة نحن مقبلون على برلمان خدمات وكشك للحصول على التأشيرات وكروت الواسطة.
كان واضحا منذ البداية أن ترشيح 9 وزراء دفعة واحدة فى الانتخابات البرلمانية أمرا يعكس رغبة الدولة القوية الدولة فى أن تجعل زيتها فى دقيقها، وأن تخبز سلطتها التشريعية مع سلطتها التنفيذية فى رغيف واحد تأكله هى فقط على طريقتها أفضل من أن تأكله المعارضة، أرجوك لا تستخف بتلك الطبخة فحينما يختلط زيت السلطة التشريعية بدقيق السلطة التنفيذية ستصبح المسألة كلها عجين فى عجين وسيفقد البرلمان دوره الرقابى لأنه لا يوجد برلمان يراقب نفسه، ولا يوجد وزير يستجوب نفسه، ولا يوجد نائب تابع للحزب الوطنى سيتقدم لاستجواب وزير زميل حزبيا وبرلمانيا وبالتالى فإن تحول مجلس الشعب على يد هذا البرلمان القادم إلى كشك خدمات جماهيرية أمر وارد الحدوث، انظر إلى أسماء الوزراء التسعة الذين تم ترشيحهم وحققوا النجاح باكتساح وستدرك أن أغلبهم يحمل حقائب وزراية خدمية فى المقام الأول بداية من ووزاة التضامن والتنمية المحلية ومرورا بوزارة الزراعة والرى وانتهاءً بالوزارات التى يلهث خلفها النواب للحصول على تصاريح عمل لأبناء الدائرة مثل البترول والإنتاج الحربى.
تحويل البرلمان إلى مركز خدمات ليس هو التأثير الوحيد للوزراء التسعة الذين أصبحوا نواب، بل إثبات عدم احترام الدولة للقوانين والدستور هو التأثير الأهم على اعتبار أن مشاركة الوزراء فى البرلمان يدمر أكثر من قاعدة قانونية وسياسية فى نفس الوقت يتعلق أهمها بأن الوزير النائب يملك صلاحيات المسئول التنفيذى فى وزارته وبالتالى فهو يجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وينهى سلطة البرلمان على الحكومة فى الوزارات التى يتولاها الوزراء النواب وفى ذلك مخالفة مباشرة لمبدأ الفصل بين السلطات فى الدستور، وكذلك مخالفة صريحة للمادة الثامنة من الدستور التى تكفل الدولة بموجبها تكافؤ الفرص لجميع المواطنين. وعندما يجمع الوزير النائب بين عضوية البرلمان وعضوية الحكومة فإنه يخل بمبدأ تكافؤ الفرص مع زملائه أعضاء مجلس الشعب الذين لا يملكون الوفاء بوعودهم لأبناء دوائرهم إلا بعلاقة طيبة مع الوزراء.
كما أنه يناقض المادة "109" من الدستور التى تبيحُ لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح القوانين، كما تبيحُ نفس الحق لرئيس الجمهورية؛ مما يجعل الوزير النائب يتمتع بنفس صلاحية رئيسه الأعلى من ناحيه وأن يتمتع بسلطة عضوية المجلس من ناحية أخرى، بينما زميله الوزير غير العضو بالمجلس لا يتمتع بمثل هذه السلطة، كما أنه يعطل المادة "121" التى لا تجيز للسلطة التنفيذية أى صلاحيات ماليه إلا بموافقة مجلس الشعب، والمادة "123" التى تفصل بين أعمال السيادة وأعمال الإدارة فيما يتعلق بالالتزامات المتصلة باستغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة كما تعطل المادة "124" التى تعطى أعضاء مجلس الشعب الحق فى توجيه الأسئلة إلى رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم؛ وكذلك حق الاستجواب فى المادة "125" ومسئولية الوزراء أمام مجلس الشعب عن السياسة العامة للدولةوحق المجلس فى سحب الثقة من أى منهم بموجب المادة "126" وتقرير مسئولية رئيس مجلس الوزراء من جانب مجلس الشعب وفقا للمادة "127".
وبخلاف انتهاك القوانين ومخالفة الأعراف السياسية ومبادئ تكافؤ الفرص فإن ترشيح الوزراء التسعة فى الانتخابات البرلمانية ربما يشكل أكبر عملية نصب سياسى فى تاريخ مصر القديم والحديث والمستقبلى، وهل هناك نصب أكثر من أن يقدم الوزراء أنفسهم كمرحشين يملكون خططا ستفضلون بها على الناس لحل مشاكلهم بينما هم فى الأصل المسئولون عن وقوع هذه المشاكل وتجب محاسبتهم على التقصير فى حلها، بل ومن واجبهم بل ومفروض عليهم حل تلك المشاكل، هل هناك نصب أكثر من ادعاء الوزراء أمام أهالى الدوائر قدرتهم على الحل وتحويل الدوائر إلى جنة إذا أصبحوا نوابا فى برلمان السلطة التشريعية، بينما هم عاجزون عن تقديم أى حلول وهم على رأس السلطة التنفيذية؟ هل هناك نصب أكثر من أن يقف الوزراء ليعلنوا عن استعدادهم لفتح أبوابهم لأبناء الدائرة ومشاكلهم بينما يصرخ أغلبهم كل يوم فى الصحف من صعوبة مهمته الوزارية؟ هل هناك خداع وتزييف أكثر من استخدام الوزراء لإمكانات وأموال وزارتهم فى الدعاية الانتخابية على حد وصف التقرير الأول الذى أعدته الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية عن مراقبة الانتخابات استغلال الوزراء لمناصبهم. والذى جاء فيه أن سيد مشعل وزير الإنتاج الحربى يعقد عدة مؤتمرات انتخابية فى مصانع الإنتاج الحربى ويستخدم رؤساء مجالس إدارات المصانع وكبار العاملين فى الوزارة فى أعمال الدعاية، بخلاف الإنفاق المباشر من خزانة الدولة كما اتهمه النائب السابق مصطفى بكرى.
وأشار التقرير أيضا إلى محمد نصر وزير الرى الذى ووعد ناخبى دائرة جهينة محافظة سوهاج بمشروعات لتحسين الخدمات فى الدائرة بتكلفة 60 مليون جنيه تشارك فيها أكثر من جهة على رأسها وزارة الرى، بالإضافة للتنمية المحلية والصندوق الاجتماعى والنقل؟ وهل هناك خداع أكثر من قيام بعض الوزراء بالسطو على خطط الدولة وتحويلها إلى برامج انتخابية خاصة بهم لإغراء أهالى دوائرهم؟
حاول أن تجيب أنت على علامات الاستفهام السابقة وحاول أن تتخيل كم المخالفات السياسية والقانونية والقيمية التى يغرق فيها البرلمان القادم قبل أن تبدأ، واستنادا إلى حالة الغدر الحكومى الذى شهدناها بأحزاب المعارضة التى وعدتهم الحكومة بالنزاهة وبوراثة مقاعد الإخوان وخلت بيهم كما يخلو العاشق بالفتاة التى جرها إلى سرير الرزيلة بوعود الزواج والستر، لا تستبعد أبدا أن يكون لترشيح الوزراء التسعة سيناريو آخر يتعلق بإمكانية التخلص من بعض هؤلاء الوزراء فى التعديل الوزارى القادم لإرضاء الناس، وأن يكون هذا الترشيح البرلمانى ما هو إلى مكافأة نهاية خدمة أو تعويض لهؤلاء الوزراء المتوقع الإطاحة بهم أو استبدال حقائبهم الوزارية بحقائب وحصانات برلمانية تضمن لهم خمس سنوات أخرى فى دائرة السلطة والضوء، ولكى يصبح السيناريو الأخير منطقى أكثر بالنسبة لك إنظر إلى أسماء الوزراء التسعة لتعرف بنفسك أن إمكانية الإطاحة بأربعة منهم على الأقل فى الوزارة الجديدة بعد البرلمان أمر وارد جدا، خاصة إذا استبعدت الوزراء الأربعة فى الترتيب القادم د. يوسف بطرس غالى وزير المالية وسيد مشعل وزير الإنتاج الحربى ، وسامح فهمى وزير البترول ود. مفيد شهاب وزير الشئون البرلمانية والمجالس النيابية، وعبد السلام المحجوب ود. محمد نصر الدين علام وزير الرى وفايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولى وأمين أباظة وزير الزراعة وعلى المصيلحى وزير التضامن الاجتماعى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة