بعد الحرب العالمية الأولى اجتاحت مصر موجة من الأغانى الخفيفة السريعة، المليئة بالكلمات الركيكة والأداء السوقى، وتم ابتذال التراث العظيم للموسيقى الشرقية لإرضاء الطبقة الجديدة، وازدهر فن الكباريه الذى فرض ذوقه على أسماء كبيرة مثل عبداللطيف البنا وداود حسنى وزكريا أحمد ومنيرة المهدية، وأصبح الملحنون الكبار غرباء على الزمن الجديد، وكان على رأسهم الشيخ أبو العلا محمد، الذى ظل وفيا لمدرسة القرن التاسع عشر، وعندما ظهر له صوت أم كلثوم تشبث به، واعتبره فتحا جديدا وسط مناخ لا يشجع على المقاومة، فى سنة 1924 غنت له «الصب تفضحه عيونه»فى صالة «سانتى»، وفى الحفل نفسه غنت لطبيب الأسنان صاحب الروح القاهرية المتحررة صبرى النجريدى «خايف يكون حبك ليه»، لتبدأ الأسطورة التى فارقت الحياة قبل 35عاما، ومرت ذكراها الأسبوع الماضى، لقد حمل صوتها طموحات الوجدان منذ ذلك الحين، وأرخ الملحنون بهذا الصوت للتحولات التى طرأت على المصريين، وربما كان محمد القصبجى الذى كان ينتمى الى التيار السائد آنذاك هو الذى اكتشف فى صوت أم كلثوم طاقة التجديد القادمة، فغيرت حياته وأسلوبه، فى لحنه الأول لها (1924) «قال إيه حلف» كان يجارى السوق، ولكنه فى 1927 قدم معها «إن كنت أسامح وأنسى الأسيه» المنولوج الذى اعتبره النقاد فتحا فى الموسيقى وهز عرش سلطانة الطرب منيرة المهدية، ونجح نجاحا لم يصدقه أحد، وفى العام نفسه كون لها تختا موسيقيا ضم أهم موسيقيى زمانهم، وكان لتعرفه على الموزع الموسيقى العبقرى عزيز صادق كبير الأثر فى النقلة الجديدة، وظل مخلصا لفكرة الغناء الحديث، فى الوقت الذى تريد فيه أم كلثوم الطرب، وخصوصا بعد فشل فيلم عايدة وأغانيه، ورغم نجاحها مع زكريا وبيرم فى فيلم «سلامة» لم تستغن طويلا عن القصبجى الذى عمل معها بالشروط الجديدة «يااللى انحرمت الحنان، نورك ياست الكل، وصباح الخير يا اللى معانا»، ثم جاءت مرحلة الإذاعة التى بدأتها سنة 1934، وبات الجمهور خليطا غريبا يتكون من جمهور المسرح والمقاهى والبيوت والبلاد العربية، وبدأت مرحلة الأغانى الطويلة التى تحتاج إلى مقدمة موسيقية تتصاعد فيها الأنغام فى قفزات شيقة تثير حماس الجمهور المختلط، وتراجع دور الملحن العبقرى، ليتقدم السنباطى وزكريا لسنوات طويلة، ولكنه فى 1944 قدم أعظم ألحانها «رق الحبيب»، وبقى خلف ظهرها بوجهه المخلص وروحه الجميلة حتى رحيله فى 1966، ويتجاهل كثيرون دور داود حسنى، الذى درب صوت أم كلثوم بأجمل الأدوار فى الفترة بين 25 و1945، لأنه كان الوريث الشرعى لمدرسة القرن التاسع عشر الذى عاصر الحامولى ومحمد عثمان وسلامة حجازى وأيضا عاصر سيد درويش والقصبجى ومحمد عبدالوهاب، وتتميز ألحانه بأنها مزيج من رصانة أبوالعلا ومفاجآت القصبجى وشعبية الشيخ زكريا أحمد، وزكريا هو الذى اقترح على والدها الذهاب إلى القاهرة عندما سمعها فى السنبلاوين، ومع هذا لم يلحن لها إلا بعد ثمانى سنوات، لأنه كان متفرغا للمسرح الغنائى، وستجد نقادا يقصرون التجديد على الاستفادة من الغرب، ويقولون إن القصبجى مجدد والسنباطى بين بين وزكريا تقليدى، وهذا غير صحيح، لأن التجديد ليس محصورا فى الاقتباس من أساليب الموسيقى الغربية، وليس التقليد يعنى المحافظة على خصائص الألحان السابقة، وزكريا نجح بسبب معرفته بالناس وانغماسه معهم واستفادته من تراث البداهة والمجاورين والشجن المخفى، وأصبح مجددا حقيقيا، لأنه قدم مزيجا رائعا بين التركيب والبساطة والوقار والخفة والتطريب، وكانت ألحانه إعادة اكتشاف لصوت أم كلثوم، لأنه أعاد له فطرته وحريته وأخرج منه مناطق كانت مختبئة منذ الطفولة البعيدة، ولم يعرف جمهورها الفرح كما قالت سهير عبدالفتاح إلا مع ألحان زكريا أحمد، الذى تراجع هو الآخر بسبب محمد عبدالوهاب فى بداية الأربعينيات، الذى كان يغنى قصائد لأحمد شوقى وعلى محمود طه وأحمد فتحى، وكانت أم كلثوم تغنى أزجالا لرامى وبيرم، وكان يستخدم آلات الأوركسترا وهى تستخدم الآلات الشرقية، وكانت المنافسة لصالح عبدالوهاب، ورفض زكريا وقبله القصبجى التخلى عن طريقتهما فى التلحين، ووافق رياض السنباطى، الذى أخذ عن عبدالوهاب فكرة المقدمة الموسيقية، واستخدم بعض الآلات الغربية واستعان بكبار الشعراء.. ليبدأ مع أم كلثوم مرحلة أخرى.