كلّما هَبَّ سَلَفىٌّ ليثيرَ زوابعَ وضوضاءَ سخيفةً حول عمل إبداعىّ ما، زاعمًا أنه خادشٌ حياء، أو مُزدرٍ مقدّسًا، أو مخترقٌ تابو، إلى آخر تلك التُّهم البليدة التى غدت «شُغلة مَن لا شُغلة له»، كلما حدث ذلك، استقرَّ فى يقينى، أكثرَ وأكثر، أنَّ القراءةَ فنٌّ عسير، لا يقلُّ صعوبةً عن فنّ الكتابة ذاته!.
ويثبُ فى ذهنى سؤالٌ موجع: أتُراهم، مثيرو الزوابعَ أولئك، قد حرمهم اللهُ تلك النعمةَ النبيلة، (نعمة حُسن القراءة وعمقها)، ثم حَرموا هُم أنفسَهم محاولة اكتسابها، عن طريق الخضوع لبرامج قراءة مكثفة وجادة، والتزوّد بكل ما من شأنه أن يرفعَ لديهم مَلَكةَ الاستيعاب؟ أم تُراهم مُغرمون بالشهرة صعودًا على أكتاف المبدعين، وكاهل الإبداع؟ أم تُراهم امتلكوا الرذيلتيّن معًا: فقرَ القراءة، وهَوَسَ الشهرة؟ أم عساهم أغرتهم موضةُ الارتزاق على دمِ المبدعين! كما يفعل أحدُ الشيوخ «المشهورين»، إذْ يرفع، كلَّ يوم، قضايا حِسْبة على المبدع ليقبض منه عدة آلاف، والاسمُ: حامى حِمى الدين! والدينُ ليس يحتاجُ لمن يَزوْدُ عنه، ويزايد عليه! إنْ الدينُ إلا كيانٌ قويّ فى ذاته، له ربٌّ يحميه؛ ومَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وبالأمس، «استيقظ» (!) النائبُ الإخوانى حمدى زهران. ليتقدم بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس الشعب، يطالبه فيه بعرض رواية «لهو الأبالسة»، للأديبة د. سهير المصادفة، على مجمع البحوث الإسلامية، للوقوف على ما جاء بها من فسوق، ومصادرتها! وأقولُ «استيقظ»، لأن الرواية صدرت منذ سبع سنوات، عن دار ميريت، قبل أن صدور طبعتها الثانية عن مكتبة الأسرة منذ خمس أعوام! فأين كان النائبُ طوال هذه السنوات؟ الإجابةُ: «النائب لا يقرأ»! وقد اعترف بهذا فى الحوار الذى أجراه معه الزميل وائل السمرى على صفحات «اليوم السابع». قال: لا أقرأ الأدب إلا قليلا. ولما سأله السمرى عن هذا القليل، عجزَ عن تسمية رواية واحدة قرأها طيلة حياته! وهنا تسقط دهشتُنا من فقر تأويله الرواية.
لأن قراءةَ الأدب فنٌّ ودُربةٌ، يتكون مع مرِّ السنوات بتراكُم مخزوننا القرائىّ لكافة ألوان الأدب المحلىّ والعالمىّ، الآنىّ والتراثى! فأنّى للسيد زهران بكلّ هذا، وقد اعترف بأنه لا يقرأ الأدب؟ أما كيف عرف عن «لهو الأبالسة»، فالإجابةُ أنه اتّبع المبدأ السائدَ فى ثقافتنا العربية. مبدأ: «قالولو»! فقد أخطره أحدهم بأن بالرواية مشاهدَ قبيحةً يندَى لها الجبين! «فاستيقظَ النائمُ»، »مضطرًا»، وقرأ!.
وبما إن السيد زهران لا يقرأ، فأدعوه إلى مراجعة كتاب: The Meaning of Beauty، الذى كتبه الفيلسوفُ البريطانىّ وولتر تيرينس ستيس Walter Terence Stace العام 1929، وإنْ لم يستطع فليطالع نسخته العربية: «معنى الجمال، نظرية الاستاطيقا» الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة، العام 2000، بترجمة د. إمام عبدالفتاح.
يذهبُ الكتابُ إلى أن للفنّ معاييرَ مختلفةً عن تلك التى نحاكمُ بها الأخلاقَ والسلوك. وأن الجميلَ والقبيحَ فى الفنّ، لهما دلالاتٌ مختلفة عنهما فى منظومة القِيَم. بل ذهب الكتابُ إلى القبيحَ ليس ضدًّا للجميل، حال الكلام عن الفنّ، بل لونٌ من ألوانه، لأن الجمالَ والقبحَ، كليهما، ينتميان إلى حقل الاستاطيقا، وهى علم الجمال Aesthetics. وهذا لا يتناقضُ مطلقًا مع قولنا إن الهدفَ الوحيدَ للفن هو الجمال. ينشأ التناقضُ حين نظنُّ، خطأً، أن الجمالَ والقبحَ فى الاستاطيقا، هما الخيرُ والشرُّ فى الأخلاق، هما الصدقُ والكذبُ فى قضايا المنطق! فالقبح فى الفن كثيرًا ما يكون قوّةً إضافية للعمل الإبداعى، لأنه المحفّز لصنع الجمال.
ونكمل الأسبوع القادم
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة