قبل أربعة أعوام أجريت حوارا مع الدكتور فؤاد زكريا الفيلسوف والمفكر الكبير الذى رحل عن دنيانا الخميس الماضي، بعد سنوات لم يتوقف فيها عن خوض معارك بالأفكار، كان العقل هو سلاحه والحرية والتفكير العلمى هدفه.. كان الحوار نتاج جلسة كنت فيها مشفقا على الفيلسوف الكبير الذى بدا واهن الجسد مرهقا، لكنه مع ذلك كان متقد الذهن، قادرا على تقديم برهان العقل دوما.
يومها كان موعدى مع الدكتور زكريا فى الثالثة ظهرا فى منزله بمدينة نصر، وبسبب الزحام المعهود وصلت متأخرا بدقائق، وقابلنى الدكتور زكريا غاضبا "إيه المواعيد البايظة دى"، اعتذرت له، لكنه ظل غاضبا حتى بدأ حديثنا، وامتد حوالى الساعة، وتناول الكثير من الموضوعات والآراء والأحداث.. نشرته فى جريدة الفجر مع تصورى حول الرجل الذى مثل لى ، وقطاع كبير من جيلى قيمة فكرية وثقافية كبرى.. فهو الذى أنزل الفلسفة من برجها العاجى للشارع، وخاض معارك مع كل التيارات الفكرية من اليسار واليمين، انتقد حكم الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات، والإسلاميين واليسار.
فؤاد زكريا الذى ولد فى بورسعيد 1927 ينتمى لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية التى قسمت العالم إلى معسكرين، درس الفلسفة لكنه لم يحتفظ بها فى مكتب أو برج، واختار أن ينزل بها مثل سقراط الذى خاض معركة العقل دون حساب للخسائر، وترأس قسم الفسلفة فى جامعة عين شمس وفى مجلتى «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» قدم أفكار العالم المعاصر الفلسفية والاجتماعية التى تزامنت مع ثورات الشباب فى أوربا.
وكانت رحلة الدكتور فؤاد زكريا فى رئاسة قسم الفلسفة فى جامعة الكويت التى سافر إليها بعد أو مع كوكبة المثقفين والمفكرين وأهل الفن والثقافة الذين توافدوا على الكويت منذ الستينات مثل زكى نجيب محمود وعبد الرحمن بدوى، كانت رحلته هى الأخرى دليلا على أهمية وجود فيلسوف فى بناء الدولة، فلم يكتف برئاسة قسم فى جامعة لكنه لعب دورا فى نقل الفلسفة إلى الشارع من جديد، أسس مع تلاميذه وزملائه فى الكويت المجلس الوطنى للثقافة مع المثقف الكويتى الراحل الكبير أحمد مشارى العدوانى، الذى أصدر عددا من أهم المطبوعات الثقافية فى العالم العربى سلسلة عالم المعرفة التى قدمت للمكتبة العربية عدة مئات من كتب العلم والفسلفة والاجتماع وقد أعلن المثقفون فى الكويت امتنانهم لفؤاد زكريا الذى ساهم بفكره الفلسفى فى بناء تيار ثقافى وسياسى أسس لنوع من الديموقراطية جعل الكويت بالرغم من قصر عمرها مميزة بجدال سياسى وفكرى متنوع.
قدم فى كتابه "التفكير العلمى" الفلسفة للرجل العادى، والكتاب أحد الكتب المؤسسة لأفكار أجيال من المثقفين العرب، كان التفكير العلمى هو أكثر الكتب الفسفية توزيعا فقد باع عشرات الآلاف من النسخ وطبع أكثر من عشرين طبعة فى عالم المعرفة وغيرها من السلاسل ودور النشر.
وبين عامى 1974 و1991. ساهم فى بناء أفكار ومشروعات ثقافية فى الكويت مثلت هى الأخرى ترجمه لأهدافه نشر التفكير العلمى والفلسفة فى الفكر وللمثقف العادى. وفى ترجماته للكتب تبدو اخياراته فقد ترجم كتاب نشأة الفلسفة العلمية، وكتاب هربرت ماركوز "العقل والثورة"، والفن والمجتمع عبر التاريخ (جزءان) 1973 وكتاب برتراند راسل: حكمة الغرب، ضمن سلسلة عالم المعرفة.
وله مؤلفات كلها تحمل الفلسفة إلى المثقف العادى وتقدم الفكر فى سياق أكثر رحابة وأوسع مجالا مثل كتابه التعبير الموسيقى، والإنسان والحضارة، و نظرية المعرفة والموقف الطبيعى للإنسان، وكان كتابه "آراء نقدية فى مشكلات الفكر والثقافة" الذى أصدره عام 1975، واحدا من أهم الكتب التى تقدم جدلا بين الحياة اليومية والفلسفة لأن الكتاب تضمن مقالات الدكتور فؤاد زكريا فى الفكر العام التى نشر بعضها فى مجلة الفكر المعاصر التى شكلت وعى جيل الشباب الباحث عن الأفكار.
أما كتابه "التفكير العلمى"، فقد كان أكثر الكتب التى شكلت نتاج جهد الفيلسوف عندما يريد تغيير الأفكار، بدا فؤاد زكريا مثل سقراط الذى يخوض معاركه بالعقل والمنطق ويحاول طرح أسئلة ويسعى لتغيير نمط التفكير. ومن هنا كانت كتبه المختلفة فى معاركه مع اليسار الذى واجهه وحيدا فى وقت كان اليسار قويا بأفكاره كما واجه الرئيس السادات وقبله عبد الناصر، ودافع أحيانا عن السادات بعد رحيله عندما أصدر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابه خريف الغضب، ورد زكريا بكتاب " كم عمر الغضب:" أكثر الكتب التى انتقدت هيكل. وتخطت الانتقاد لتفكيك نمط فى التفكير كان فؤاد زكريا يرى أنه خطر، وهى معركة من معارك أخرى نتناولها غدا.
كل هذا كان حاضرا أثناء حديثى مع الدكتور فؤاد زكريا قبل أربع سنوات.. الرجل الذى رحل بعد أن خاض معاركه دائما بالمنطق والحجج والأدلة والبراهين، لم يقترب من الأشخاص بل من الأفكار.. كانت الحرية والعقل كلاهما جناحى التقدم ولا يسمح بالتنازل عنهما لأن العقل هو أداة حل المشكلات وأهم إمكانات الإنسان والحرية هى التى تتيح للعقل أن يعمل بحرية ويغير العالم.