مثل "البلبل الصداح" فى حكاية أمى كان "إبراهيم عبد العاطى": وكانت هى أول حكاية استطاع ذكائى أن يستوعبها فى طفولتى المبكرة لكنها لم تغب عن ذهنى أبدا، وكانت- الحكاية- تحكى عن "البلبل الصداح" الذى أفلت من قبضة العفريت الذى استطاع بإشارة من إصبعه أن يسخط أهل القرية كلهم ويحولهم إلى رمال تدوس عليها أقدام العفاريت ويبول عليهم أبناء العفاريت الذين سكنوا القرية كلها، لكن "البلبل الصداح" الذى استطاع الطيران قبل أن يسخطه العفريت وبنى له عشًّا على أعلى غصن فوق أقدم شجرة جميز على حافة النهر الذى جفت مياهه فيما غاصت المراكب التى كانت تحمل المسافرين من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب بأشرعتها فى الطين الذى بقى شاهدا على وجود النهر الكبير قبل أن يجف بفعل قبضة العفريت القادرة، وكان "البلبل الصداح" هو الذى أخذ يغنى للمسخوطين حتى ينهضوا ليتحولوا إلى آدميتهم السابقة ومع خلاص أول شاب وعودته إلى آدميته حتى لقنه "البلبل الصداح" أغنيته وما أن حفظها الشاب حتى بدأ يغنيها للمسخوطين فتنفك عنهم الطلاسم ويعودون بشرا، فيما كف "البلبل الصداح" عن الغناء نهائيا مقررا الصمت الأبدى وهو يتابع عودة المسخوطين إلى آدميتهم، وهذا ليس تشبيها من قبيل المبالغة أو الصورة الفنية التى تكتب بمناسبة رحيل كاتب كان له رحيق خاص منذ أن قرأت له "لوقا"؛ بل كان هذا الإحساس يغمرنى كلما قابلت "إبراهيم عبد العاطى" الذى كان واحدا من الأعمدة الأساسية التى قامت على أكتافها أسطورتا "جاليرى 68" و"جيل الستينات" لكن عمود الأساس هذا أبدا لم يكتمل ليس لخلل فى بنيانه بقدر ما كان الخلل كله فى انهيار البناء نفسه فانهيار "جاليرى 68" كان بداية ونهاية الخلل الذى أدى إلى عدم الاكتمال: عندما رأيت "إبراهيم" لأول مرة كنت مفصولا من الجامعة بعد مظاهرات الطلبة عام 1968 حيث خلفت الإسكندرية خلف ظهرى واستقر بى المقام فى القاهرة متنقلا بين مقهى "ريش" ومقهى "إيزائيفيتش" وكافتيريا "سوق الحميدية" وكافتيريا "أسترا" حيث كنت أنا والرسام "ثروت فخرى" متلازمين- انتحر بعد ذلك ثروت- وكنا نحب أن نتابع الكتاب الشباب، كانوا شبابا فى هذه الأيام المشتعلة الطازجة لكنهم كانوا يكبروننا سنا على أية حال– فى نقاشاتهم مع يوسف إدريس ونجيب محفوظ ومحمود حسن إسماعيل ولويس عوض ورجاء النقاش وغالى شكرى وكتاباتهم القصصية وقصائدهم التى كانت تنشر هنا أو هناك؛ يا ألطاف الله كان شيئا أشبه بالولادة الجديدة للوطن، لثقافة الوطن، كل الوطن!! أو قل مثل "البلبل الصداح" الذى كان يغنى للناس حتى يعودوا إلى آدميتهم: كان هناك أمل دنقل ومحمد عفيفى مطر ومحمد مهران السيد وفتحى فرغلى ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد أبو دومة وعبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وسيد خميس والدسوقى فهمى وصبرى حافظ ونجيب شهاب الدين وأسامة الغزولى وخليل كلفت وإبراهيم فتحى وعزت عامر ومجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم وصبرى حافظ وعبد الحكيم قاسم وشفيق مقار وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد ابراهيم مبروك وكان يبدو إبراهيم منصور أعلاهم صوتا وأحدهم مشاعر، وربما كان أكثرهم شجاعة فى اتخاذ المواقف المعادية للسلطة غير الديمقراطية وكان يلازمه دائما إبراهيم عبد العاطى فى صوت خفيض ورقة فى الحديث حيث لمع اسم "إبراهيم عبد العاطى" وسط كل هؤلاء وغيرهم من الكتاب كبار الموهبة، الذين قام على أكتافهم تأسيس جيل كامل تحول إلى أسطورة عبقرية فى وجدان الأمة وكانوا قد قرروا إصدار مجلة تحمل كتاباتهم من قصة قصيرة وقصائد ومقالات نقدية وأعمال إبداعية ودراسات نقدية مترجمة ومع أنى لا أملك توثيقا لاسم صاحب اقتراح إصدار "جاليرى 68" إلا أننى سمعت من صديقى إبراهيم منصور بعد أن ربطت الصداقة القوية بينى وبينه بعد توقف "جاليرى" بسنوات، سمعت من "إبراهيم منصور" أن "إبراهيم عبد العاطى" كان صاحب فكرة إصدار المجلة ثم تفرق دمها بين القبائل وكان فى البداية أحد الممولين لها ونشر فيها قصته الجميلة "لوقا" وقصة جميلة بعنوان "كل الشخصيات تخيلية" كما كان "غالب هلسا" أيضا، غير أن هذه المجموعة قد اختارت بعض الكتاب ليديروا المجلة وكان الفنان الكبير حسن سليمان مشرفا فنياًّ، وتم فرض أحمد مرسى رئيسا للتحرير بدفع من إدوارد الخراط حيث كان يوسف السباعى سكرتيرا لمؤتمر الوحدة الأفروآسيوية، وسكرتيرا عاماً لمؤتمر شعوب آسيا وأفريقيا اللاتينية عام 1966م وفى نفس الوقت رئيسا للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدرجة وزير، وكان إدوارد الخراط دائما خلف يوسف السباعى حيث استعان به فى إصدار العديد من المجلات تحت إشرافه مثل الأدباء العرب، والرسالة الجديدة، والقصة، ومجلة آخر ساعة، وكان معه حتى عندما أصبح رئيس مجلس إدارة دار الهلال عام 1971 ومنذ أنشأ المجلس الأعلى للفنون والآداب، وحتى عندما أصبح رئيسا فخريا لجمعية كتاب ونقاد السينما منذ بدء إنشائها، وتكونت هيئة تحرير "جاليرى 68" من "إبراهيم منصور" و"إدوار الخراط"، و"سيد حجاب"، و"غالب هلسا"، ولم يجدوا بدا من إسناد سكرتارية التحرير إلى "إبراهيم عبد العاطى" ومعه "سعيد عبدالوهاب"، ثم أسندوا إدارة التحرير إلى جميل عطية إبراهيم، لكن سرعان ما دبت الخلافات لمحاولة "إدوارد الخراط" احتواء الجميع وتطويعهم تحت جناح السلطة فتصدرت كلمة "أحمد مرسى" العدد الأول الذى وضع منذ البداية البذرة الأولى فى انهيار المجلة- حلم إبراهيم عبد العاطى- الذى دشنه "إدوارد الخراط" عندما كتب يقول: "أتمنى ل 68 أن تكون ساحة مفتوحة، رحبة الهواء، ومتلاطمة، وأن تنأى بنفسها عن 'الالتزام المتزمت بالعقائد والأيديولوجيات" ثم استنكر الخراط ونفى بشدة أن يكون له أدنى مسئولية بالدراستين اللتين كتبهما كل من "إبراهيم فتحى" و"غالب هلسا" عن القصة القصيرة حيث ظهر المنهج الماركسى فى تناولهما للقصة القصيرة التى بدأت تتشكل على يد "إبراهيم أصلان" وزملائه من الشباب واستمر فى محاولته المستمرة لتطويع المجلة لسيطرة السلطة الحاكمة ممثلة فى "يوسف السباعي" و "إدوارد الخراط" وما أن أغلقت المجلة تماما حتى بدأ "إبراهيم عبد العاطى" يجد نفسه يعانى فى كتابة القصة القصيرة إلى أن تأكد توقفه تماما عن كتابة القصة القصيرة وعندما التقيته فى عام 80 سألته لماذا توقف عن كتابة القصة القصيرة ضحك ضحكته الجميلة واهتزت أرنبة أنفه – لا أعرف كيف كانت تهتز أرنبة أنفه بهذه الطريقة- قائلا: "صديقك عبده جبير" يكتب قصة قصيرة بالطريقة التى كنت أحلم بها و"عبده جبير" يكتب ما أردت أنا أن أكتبه فلماذا أكتب أنا؟" ولم أعرف هل كان- لحظتها- يتحدث جادا أو مازحا، إلا أنه بالتأكيد كان مثل "البلبل الصداح" فى حكاية أمى، ما أن تعلم شاب الغناء حتى توقف هو عن الغناء مفسحا المجال لشباب أصبح يغنى نفس أغنيته، وكانت آخر مرة رأيته فيها فى عام 85 على محطة قطار المترو من التحرير إلى مصر الجديدة حيث كنت أذهب إلى المستشفى للتحضير لإجراء عملية القلب المفتوح فركبنا من ميدان التحرير سويا وجلسنا معا طوال الوقت الممتد من ميدان التحرير حتى مصر الجديدة فتحدثنا لمدة تزيد عن الساعتين فى كل شىء وأى شىء، لكنه لم يقل كلمة مواساة واحدة لى فى مرضى، وذكرته بما كان قد قاله لى فى سبب توقفه عن كتابة القصة وأنى أربط بينه وبين "البلبل الصداح" فى حكاية أمى فضحك بقوة وظل يضحك إلى أن غادر عربة القطار، وكنت مازلت أرى وجهه يتراءى أمامى فيما راحت أرنبة أنفه تهتز بنفس الطريقة العجيبة.
• كاتب وروائى مصرى