برغم أن الأمل بعيد، وبرغم أن الرهان غير مطمئن لمن يحسبها "بالورقة والقلم" وبرغم أن المحبطات أقوى من المحفزات، والعقبات أشد من فكرة تجاوزها، وبرغم أن فكرة ترشيح البرادعى لرئاسة مصر لن تتجاوز إلى الآن فكرة الحلم الرومانسى، لكن هذا كله لا يمنع من أن نحلم ونستعذب الوقت الذى نرى فيه رجلا مخلصا ومحبا لوطنه ومقدرا لاسمه وسمعته وتاريخه يحاول السعى إلى كرسى الرئاسة، وأن نحلم "بمصر التى فى خاطرى وفى دمى" بعد أن أصبحت "مش أمى دى مرات أبويا".
يشبهنا ونشبهه، ملامحه المصرية "الشقيانة" لا تشير أبدا إلى إقامته الدائمة فى الخارج، من يراه يستطيع مطمئنا أن يجزم بأنه رأى آلاف المرات أحدا يشبه، لم تكن صوره يوم الجمعة الماضى فى الحسين "نشازا" فى الكادر، أتخيله جالسا بجوارى فى ميكروباص المطرية، أو عاملا فى مصنع بشبرا الخيمة، أو واقفا بجوار "محمد أبو اسماعين" فى فيلم الأرض، أو شيخا فى مسجد، أو راهباً فى دير، وحينما "يصعد" إلى الفضائيات المحلية والعالمية أفرح "بابن حتتنا" الذى "فتح عليه ربنا من باب وسع".
نعم.. أجَّلت فرحتى بإعلان البرادعى رغبته فى الترشح لرئاسة الجمهورية تحسبا للعواقب، ونعم حزنت حينما رأيت أحد أبناء جيلى "بيتريق" على الفكرة بطريقة غريبة أدهشتنى وآلمتنى، ونعم.. لا أطمئن تماما للمحيطين بالبرادعى وقدرتهم على إرشاده إلى المسار الناجح الفعال، وإن كنت لا أشك فى وطنيتهم وحرصهم على التغيير الإيجابى، ونعم.. أخاف أن يذبل الحلم فى أيادى الحالمين، لكن كل هذه الهواجس تبددت حينما رأيت رجلا عجوزا فى الحسين يحتضنه بشوق، وهو غير متأفف منه ولا "قرفان" من ريحة عرقه، ولا مكترث بأن هذا الفقير قد يكون حاملا لفيروس أنفلونزا الخنازير، تبددت الهواجس أيضا حينما رحب هذا الرجل الوقور بإجراء حوار إليكترونى مع قراء اليوم السابع، فى الوقت الذى ماطل فيه من هم أقل منه فى القيمة والقامة على الإقدام بمثل هذه الخطوة، هنا تأكدت من صدق النية، وأهمية التجربة حتى لو كانت نتائجها غير مطمئنة.
"شد القلوع يا برادعى ومفيش رجوع يا برادعى" هكذا غنى له مؤيدوه فأحببت الأغنية، برغم أنى لا أراه فارسا، ولا نبيا، ولا مخلِّصا، ولا أحب أن يصفه أحد بالصفات السابقة، فقط أراه مصريا، وأعرف أن هناك الكثيرون من أبناء مصر يشبهونه ولا يقلون عنه أهمية وعبقرية، لكن قدرنا أننا نشئنا فى مجتمع فاسد حتى النخاع، وأد كل موهبة وأصابها بالإحباط والجنون مرة، وبالغش والتزييف والمداهنة مرات ومرات، قدرنا أن أبناء مصر المتميزين ذهبوا لمصير من ثلاثة، الأول وهو الأسلم أن ينخرط مرغما فى المسار القمعى الفاسد ابتغاء وهم الإصلاح من الداخل، أو استسلاما بالأمر الواقع فيصير أشد فسادا، والثانى هو الهجرة إلى الخارج والذهاب إلى أرض الله الواسعة بعد أن استضعفوا فى بلدهم ونالهم منها كل خبيث، والثالث هو المجاهدة و"المهاتية" التى فى الغالب تذهب هباء وسط قلوب لا ترى، وجلود لا تحس، ليموتوا بحلمهم، وليتحقق فيهم قول الشاعر الأجمل أمل دنقل حينما قال فى قصيدة مقابلة خاصة مع ابن نوح " يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينة/ وردةً من عَطنْ/ هادئاً../ بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ.. وأحب الوطن".
أرى البرادعى تحايل على هذه المصائر الثلاثة، فلم يلطخ يده بفساد الواقع، ونجى بنفسه بالإقامة المؤقتة بالخارج حتى يثبت لنفسه وللعالم أنه يستحق ما هو أفضل، وفى نفس الوقت لم ينس الوطن ولم يغب عنه ولم يتجاهله.
"عودة البرادعى" التى أصبحت عند الكثيرين "مثل عودة الروح" أبهجت البعض، وضجت مضاجع الآخرين، ولا أتخيل أن البرادعى ساحر أو نبى بطل أسطورى، هو بشر مثلنا يأكل الطعام ويمشى فى الحسين ويتصفح مواقع الإنترنت، ولا أتصور إنه الساحر الذى سيقلب الأوضاع بين يوم وليلة، لكنه على الأقل رجل مثقف يقرأ الشعر ويحب الرواية، وديمقراطى حقيقى، ومدنى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقادر على الحوار الحقيقى وليس المعلب، وأكثر ما يجعلنى متحمسا للبرادعى هو أنه "فرصة" لتصحيح أوضاع مصر وتنقية دستورها وهيكلها السياسى والاجتماعى، وأمل فى إفراز حقيقى لنخبة سياسية واعية لا مرتزقة ولا حنجورية، والأكثر من كل هذا هو أنه مرشح من الشعب لا من أبينا الذى فى الغرب ولا أبينا الذى فى القصر، ولا أبينا الذى فى الغرف المظلمة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة