من يقول ماذا؟ ومتى؟ ولمن؟ وبأى طريقة؟ تلك كانت القاعدة التى حفظناها عن الأساتذة الذين علمونا أبجديات الإعلام فى جامعة القاهرة يوم أن اخترنا الصحافة مهنة ومستقبلا. تلك مقدمة قد لا تبدو مفهومة إلا إذا ربطتها ببقية الحكاية.. وأما الحكاية فهى قصة صراع سياسى وإنسانى وجغرافى وحتى حربى تدور رحاها منذ أكثر من نصف قرن بين العرب وإسرائيل. وجرب العرب كثيرا من الأسلحة فى حربهم فانهزموا فى كثير منها وانتصروا فى القليل، ومازالت الحرب قائمة والصراع دائرا. وسلاح واحد لم يقرب منه العرب رغم أنه الأقوى والأكثر فاعلية فى ظل غياب أسلحة أخرى لا يملكونها.. الفن بكل أشكاله وخاصة السينما.. وربُ قائل بأن حديثى ما هو إلا هذيان أو تمسك بتوافه الأمور فى ظل حديث جد خطير وهو الصراع العربى الإسرائيلى، ولكن دعونى أسق أسبابى ربما أجد لقضيتى أنصارا حتى لو على الورق.
قبل أن تتحرك جيوش أمريكا وحشودها العسكرية وآلتها الحربية لأى بقعة من بقاع الأرض انتشرت موسيقاها وأفلامها وموضة ملابسها الجينز واحتل الهامبورجر والكنتاكى مطاعم العالم ثم بدأت الغزو العسكرى.. أى أن الدولة الأقوى فى العالم عسكريا استعانت بآلة الفن والموضة قبل أن تستعين بالدبابة والبندقية. فما بال العرب الذين لا يملكون الدبابة والبندقية لا يستعينون بالفن والموضة التى يستطيعون امتلاكها؟!
للأسف تقف تهمة التطبيع حجر عثرة أمام أى شخص يتحدث فى هذا الأمر، سواء كان الحديث عن إسرائيل أو حتى عن الغرب بشكل عام. فينتهى بنا الأمر دائما إلى أن فنوننا وموسيقانا وثقافتنا تتحدث مع نفسها ولا تخرج أبعد من ذلك.
أفلامنا لا تخاطب أحدا إلا جمهورنا بل حتى بعض الجمهور، وموسيقانا لا تطرب أحدا إلا بعض الآذان، وطعامنا لا يعرف إلا بالكاد أفواهنا.
بل أكثر من هذا إذا وجدنا فنانا ما يحاول أن ينطلق بموسيقاه لأى مكان خارج الحدود اتهمناه بأنه حالم بالسراب، وإذا وجدنا سينمائيا يسعى للوصول بأفلامه للاشتراك فى مهرجانات عالمية أو إنتاج مشترك اتهمناه بالعمالة للغرب، وإذا حاول فنان أن يشارك فى احتفالية ندا لإسرائيل قلنا عنه «مطبع» وذبحناه كما حدث مع يسرى نصرالله منذ شهور.
فى نيويورك تُعرض حاليا مسرحية على أحد مسارح حى منهاتن اسمها فلسطين تعرضها نجلاء إدوارد سعيد ابنة الفلسطينى الراحل، وهى من الجيل الثانى أو حتى الثالث للفلسطينيين فى المنفى ولا تتحدث إلا الإنجليزية ولكنها تتمسك بجذورها، فهل احتفى بها أحد وهى تتحدث عن فلسطين فنيا فى عقر دار العدو؟.
إسكندر قبطى مخرج عربى يحمل الجنسية الإسرائيلية مكرها، فيلمه «عجمى» مثل إسرائيل فى مسابقة الأوسكار الأخيرة، شاهدته على قناة BBC العربية يقول إنه لا يمثل إسرائيل رغم أن شريكه فى الإخراج إسرائيلى، ولكنه لم يجد سبيلا لصناعة فيلم إلا بأموال إسرائيلية، فهل نجرؤ على عرض فيلمه ومساندته لأنه مخرج شجاع وقف أمام كاميرات العالم فى أهم حدث فنى عالمى ليهاجم الدولة العنصرية التى دعمته؟! فإذا كنا لا نستطيع أن نقدم أفلاما تنافس على الأوسكار كما تفعل إسرائيل منذ 1964، فهل، على الأقل، نستطيع أيضا أن نساند هؤلاء الذين يجاهدون نيابة عنا؟!
كل أموال العرب مليارات المليارات التى تستثمر فى الفن، تنفق على مطربى الكليبات العرايا ويا ليت عريهم يفيد. كل مليارات شيوخ النفط تنفق فى غرف نومهم وللأسف حتى رجال الأعمال فى مصر حين ينفقون على الفن والثقافة فإنفاقهم مرتبط بمتعتهم الشخصية أو البرستيج ولن أعطى أمثلة على المتعة الشخصية ولكنى سأكتفى بالحديث عن البرستيج كما يحدث فى دعم مهرجان القاهرة السينمائى مثلا. أما فى مجال الحديث عن أصحاب اللحى الذين يمثلون الإسلام المرتبط بالشرق فحدث ولا حرج، فضائياتهم ينفقون عليها أيضا المليارات ولكن حديثها كحديث الطرشان، جمهورها المستهدف هو جمهور بالفعل مسلم أو على الأقل مرتبط بالإسلام، ينفّر من هم بالفعل على دينهم ولا يزيد منهم بل فى أنجح الأحوال ينقصهم.
منذ عام تقريبا كنت عضوة فى لجنة تحكيم المهرجان القومى للسينما، ومن بين الأفلام القصيرة والتسجيلية المعروضة فى المهرجان كان هناك فيلم عن لقاء شباب مصرى وإسرائيلى فى مهرجان سينمائى وتحاورهم سويا، وكنت بشكل شخصى أرى أن فكرة الفيلم جيدة وشجاعة ولكنى قوبلت بسيل من الهجوم من أغلب أعضاء لجنة التحكيم الذين اعتبروا الفيلم دعوة للتطبيع، ودار حديث مطول حول الأمر لن أطيل عليكم فى نقله.. ولكن انتهى بى الحال وأنا المقاتلة إلى أن أنزوى فى ركن بعيد هادئ لأنى متهمة بالدفاع عن فن التطبيع.. تهمة كفيلة بإخراجى من رحمة العباد لا الخالق.
فلكل هؤلاء الذين يتحدثون بلغة بالروح والدم نفديك يا وطن، أو دين.. لكل هؤلاء طوق نجاتكم فى السينما والموسيقى والفن ولكنها بالتأكيد ليست سيما الترسو ولا موسيقى الملاهى الليلية ولا فن العوالم، فهل هناك من مجيب؟!
وعودة إلى البداية، القاعدة التى تقول من يقول ماذا.. أجيب.. أنا مصرية قومية موحدة بالله أقول قولى لأناس علهم يعقلون ويتدبرون فيفعلون.. ياريت.