«حين يزيد الأمر عن حده ينقلب إلى ضده» حكمة جميعنا يعرفها، ويرددها، ويستعين بها حين الحاجة، رغم أننا قلما نفهمها ونعمل بها بل على العكس، أزعم أننا فى مصر نعمل عكسها تماما كبيرنا وصغيرنا، الوزير والخفير والمشهور والمغمور.
كل هؤلاء يبدأون أى شىء يؤثر فى الآخرين ويزيدون الأمر على حده، وعجبا أنهم لا يرونه ينقلب لضده، بل على العكس يتمادون حتى البجاحة دون توقف، فهل أكون متجاوزة إذا قلت إننا نحيا فى زمان ومكان أكثر ما يميزه هو البجاحة.
واسمحوا لى أن أسوق عدة أمثلة من ظواهر فى حياتنا علها تؤكد ما أقوله وأحكى عنه.
> مسؤول حكومى يخرج علينا بقرار يجد معارضة شديدة محترمة، بمعنى آخر، معارضة مبنية على أسباب وجيهة. ولكنه رغم ذلك يستمر فى التشبث به، بل يزيد ذلك بمجموعة قرارات مشابهة ويزيد ويزيد وكأن لسان حاله يقول: مش عاجبكم القرار الأولانى طب والله لأوريكم...!! ويتحفنا بثانٍ وثالث إلى آخره ولا يرى فيما يفعل إنه انقلب إلى الضد، وصار مثالا لحالة من البجاحة.
> لا أدعى أننى أفهم فى الاقتصاد أو دنيا البنوك والديون وغيرها، ولذا لا قبل لى بتقييم قصص رجال الأعمال الهاربين أو العائدين اقتصاديا.. ولكنى فقط أستطيع تقييم الأمر اجتماعيا وإعلاميا.. يبدأ الإعلام بالبحث عن الهاربين لظهورهم كسبق إعلامى وطرح لقضية، كما حدث مع أشرف السعد أو رامى لكح أو الهوارى أو عشرات غيرهم، ويزيدون ويزيدون حتى يتحول الأمر إلى سرك يتم نصبه كما حدث مع رامى لكح الذى عاد كأنه صاحب انتصار مكلل بالغار.. استقبلته الجماهير على أبواب روما، عفوا أقصد القاهرة، وتاه الناس بين رجال البنوك والهاربين.. من يصدقون؟ حتى تحول الأمر إلى أن هؤلاء الهاربين ضحايا كما فى فيلم «الهارب»، يعيشون فى الخارج يبحثون عن الجانى الذى ورطهم.. رامى لكح دون خوض فى تفاصيل اقتصادية بنكية معقدة وغيره، هربوا لأنهم أخذوا فلوس البنوك وعاشوا بها وتركوا صغار المقترضين يدخلون السجن.
زادوا وزادوا وحين انقلبوا للضد لم يجدوا من يرد لأننا فى زمن البجاحة!!
> تكريم الفن والفنانين عمل يستحق الإشادة به إذا قدموا ما يستحق التكريم.. عمل له قيمة باقية أو تميز فنى أو عالمى، أو مسيرة حياة تستحق التقدير، تلك هى معايير التكريم ليس فقط للفن ولكن لأى مجال من المجالات.. وقد بدأ أمر تكريم الفنانين بالمهرجانات الفنية والمجلات المتخصصة ثم انتقلت الظاهرة، التى كانت صحية إلى جهات أخرى، ليس لها علاقة بتقييم الفن أو الفنانين مثل نوادى الليونز والإنرهووييل والصفوة التى بدأت تعتبر تكريم الفنانين ضمانا لنشر صورهم فى الصحف حتى تحول الأمر إلى مهزلة خاصة بعد رمضان، حين يتم تكريم المسلسلات ويتم الاحتفاء بالسيئ قبل الحسن، حتى انقلبت معايير التقييم وتاهت بوصلة النجوم وصناع الدراما أو الأفلام فيما يقدمون، فانقلب الأمر إلى ضده ولكن هل من أحد وقف يسأل ماذا أنت فاعلون؟ على العكس صرنا فى حالة بجاحة اجتماعية وفنية.
وانتقلت العدوى إلى مدارسنا وجامعاتنا الخاصة والحكومية التى راحت هى الأخرى تكرم الفنانين من أجل أن يضحك المسؤولون علشان تطلع الصورة حلوة. محراب العلم تحول إلى مكان احتفاء بالفن الردىء فى أغلبه. ومن هؤلاء لهؤلاء لآخرين حتى فى بعض الكنائس وبرامج الرياضة والسياسة، وتاه الفن والفنانون من كثرة التكريمات حتى صدقوا أنهم يقدمون ما يستحق التكريم، وإن تكلم أحد خرجت دروع الجمعيات والجامعات والمدارس والكنائس والبرامج تحمى صدورهم. إنها البجاحة حين يزيد الأمر على حده ولكن لا أحد يعترف.
> من منكم لم يعد معتادا على شوارع غزتها الزبالة والتراب، والزبالون فى الشوارع يجوبون الطرق بزيهم الرسمى يتسولون بعدة الشغل، هل يتوقف أحد؟ هل يتذكر أحد كيف بدأ الأمر؟ أنا أتذكر مجرد شخص يجمع القمامة، يقف يعمل، فنزل أحدهم من سيارته وأعطاه فى يده شيئا ربما يكون مالا كصدقة أو نذر، وشىء فشىء زاد الأمر وتحول إلى أن أصبحت مهنة جمع القمامة هى التسول، وتحولت شوارعنا إلى مقلب كبير للقمامة وزاد وزاد ولا أحد يقول شيئا لمتسول فى ملابس جامعى القمامة أو المسؤول لأننا فى زمن البجاحة.. فهل من أمثلة أقوى من أحمد عز رجل الحديد الهمام ويوسف بطرس غالى والى الجباية.
وعود على بدء، فى مصر البجاحة صارت نهجا ومنهجا يتساوى فيها الفقير والغنى والوزير مع الخفير والمثقف مع الجاهل.. فكلنا فى البجاحة نسبح ثم نغرق فكيف الخلاص؟!