قدمت الباحثة المصرية "آية أحمد شفيق" رأيا شديد الأهمية فى رسالتها للدكتوراه عن "الصحافة الاستقصائية" فى دراسة مقارنة حول الموضوع فى مصر وأمريكا، حيث أشارت "آية" إلى أنه: "بالفعل قد برزت الصحافة الاستقصائية فى مصر مؤخرا - ولكن "كمصطلح" – فهناك ما يشير فى التاريخ إلى وجود صحافة استقصائية ناجحة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تقرير الأسلحة الفاسدة للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس عام 49، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بإرهاصات الصحافة الاستقصائية فى مصر".
وقد قلنا سابقا أن "الصحافة الاستقصائية Investigative Journalism " هى نوع من أنواع "التحقيقات الصحفية" التى يقصد بها التحقق والاستقصاء والتأكد من المعلومات التى يتم جمعها قبل نشرها، والتى تتناول قضية أو قضايا لا يرغب الآخرون فى الاطلاع عليها أو إظهارها إلى الواجهة الإعلامية أو المجتمعية، ومنذ بروز الصحافة الاستقصائية فى أمريكا بداية السبعينيات لعبت دورا بارزا فى عمليات الإصلاح ومكافحة الفساد، حيث ترتبط الصحافة الاستقصائية بالنظم الديمقراطية أو التى تتبنى الديمقراطية كنظام حكم، وتعتبر من أكثر أنواع الصحافة إثارة باعتبارها صحافة تبحث فى "عمق الحقيقة" لتخرج بـ"دوي" يزعزع الرأى العام لما يجرى فى الكواليس من فساد وتهريب وقضايا أخلاقية تمس المجتمع من جذوره وتكمن عناصر الإثارة والإحساس بالإنجاز فى النتائج التى غالبا ما تحققها "التحقيقات الصحافية الاستقصائية" فى شكل التغييرات الحقيقية وآثارها الايجابية على حياة الناس، والتى تشمل فى بعض الأحيان تعديل القوانين أو تقديم أشخاص إلى العدالة أو تصحيح الأخطاء حيث تعتبر "الصحافة الاستقصائية" أحد أهم أساليب فضح الفساد ومحاربة أوكاره إذا ما توفرت لها حرية صحفية، وحرية فى جمع المعلومات وحماية قضائية وقانونية، وكانت الشفافية فى الأداء وإتاحة المعلومات أمام الصحفيين كـ"استراتيجية" وسياسة حكومية متبعة، وكثيرا ما تعتبر "الصحافة الاستقصائية" أكثر أنواع الصحافة إثارة وأهمية لأنها تعمل على وضع المرض والعلاج فى سلة واحدة أمام المجتمع وصناع القرار، وهو ما يعطى "الصحفى الاستقصائى" إحساسا قويا بالإنجاز، إلا أنها تتطلب وقتا ومجهودا شاقا، مما يجعلها أصعب أنواع الصحافة أيضا، ولا تنحصر الصحافة الاستقصائية فى محور أو محاور الأداء الحكومى فقط، بل تمتد إلى ما يهم الجمهور من قضايا صحية وبيئية وتعليمية، وقضايا حماية المستهلك، وتجار المخدرات وتجار الدعارة ومهربى الأدوية الفاسدة، وقضايا الجرائم الغامضة، وجرائم غسيل الأموال وغسيل السمعة لرجال الأعمال المنحرفين، ومن المتعارف عليه أن معظم مؤرخى الصحافة فى العالم يعتبرون أن الصحافة الاستقصائية قد بدأت على يد الصحفى الأمريكى الكبير "بوب وودوورد" الذى كشف فضيحة تنصت الرئيس الأمريكى الأسبق "نيكسون" فيما عرف بقضية "ووترجيت" وأطاح به معزولا ومكللا بالخزى والعار ومنزويا حتى مات، وبعدها أيضا صار مصطلح "الحلق العميق"مصطلحا على "المصدر الخفي" الذى يمول الصحفيين بالوثائق السرية لكشف قضايا الفساد السياسى والاقتصادي، لكننا- وبكل فخر وإعزاز وتقدير واحترام – سوف نخالف كل مؤرخى الصحافة فى العالم لنؤكد - وبكل فخر وإعزاز وتقدير واحترام – أن الأب الشرعى لـ"الصحافة الاستقصائية" هو صحفى وكاتب "مصري" وهو الصحفى والكاتب الكبير "إحسان عبد القدوس" الذى فجر دويا محليا وعالميا بتحقيقاته الصحفية التى نشرتها "روزا ليوسف" فيما عرفت بـ"قضية الأسلحة الفاسدة" وهى من أشهر القضايا التى ارتبطت بحوادث جسيمة فى تاريخ مصر، أهمها هزيمة مصر فى حرب فلسطين عام 1948 وقيام ثورة يوليو عام 1952 حيث كانت تحقيقات "إحسان عبد القدوس" الصحفية عن الأسلحة الفاسدة التى تم توريدها للجيش المصرى أثناء حرب فلسطين 1948 ويقول "عمرو أبو سيف" فى موقعه الرائع عن الملك فاروق أن القيادة السياسية المصرية ممثلة فى الملك "فاروق" ورئيس الوزراء "النقراشى باشا" كانت قد قررت دخول حرب فلسطين عام 1948 قبل نهاية الانتداب البريطانى على فلسطين بأسبوعين فقط، وأقر البرلمان المصرى دخول الحرب قبلها بيومين فقط، ونظراً لضيق الوقت والقصور الشديد فى السلاح والعتاد الحربى اللازم لدخول الجيش الحرب، تم تشكيل لجنة سميت "لجنة احتياجات الجيش" يوم 13 مايو كانت لها صلاحيات واسعة بدون أية قيود أو رقابة لإحضار السلاح من كل المصادر وبأسرع وقت ممكن، وكان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أصدر قراراً بحظر بيع الأسلحة للدول المتحاربة فى حرب فلسطين، وهو قرار كان يقصد منه الدول العربية بالذات، لذلك اضطرت الحكومة المصرية للتحايل على هذا القرار أن تجرى صفقات الأسلحة مع شركات السلاح تحت غطاء أسماء وسطاء وسماسرة مصريين وأجانب، مما فتح الباب على مصراعيه للتلاعب لتحقيق مكاسب ضخمة وعمولات غير مشروعة، فكان التلاعب يتم فى شيئين أساسيين هما: سعر شراء السلاح الذى كان مبالغ فيه بدرجة كبيرة، ومدى مطابقة السلاح للمواصفات وصلاحيته للاستعمال، وفى 24 فبراير 1949 تم توقيع اتفاق الهدنة بين مصر وإسرائيل، وبذلك انتهت حرب فلسطين فعلياً بهزيمة مصر والدول العربية واستيلاء إسرائيل على كل أرض فلسطين ما عدا قطاع غزة والضفة الغربية والقدس العربية، وهو أكثر بكثير مما كان مقرراً لليهود وفقاً لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وتفجرت القضية فى أوائل عام 1950 بسبب تقرير ديوان المحاسبة مثل الجهاز المركزى للمحاسبات الآن الذى ورد فيه مخالفات مالية جسيمة شابت صفقات أسلحة للجيش تمت فى عامى 1948و 1949، ولما حاولت الحكومة برئاسة "مصطفى النحاس" الضغط على رئيس الديوان لحذف ما يتعلق بهذه المخالفات من التقرير، رفض وقدم استقالته، فقدم النائب البرلمانى "مصطفى مرعي" من المعارضة استجوابا للحكومة عن أسباب الاستقالة وفضح فى جلسة مجلس الشعب يوم 29 مايو 1950 للمجلس المخالفات الجسيمة التى شابت صفقات الأسلحة، وللأسف استخدمت الحكومة الوفدية برئاسة "مصطفى النحاس" والملك "فاروق" كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لإسكات أصوات المعارضة التى أرادت فتح ملفات القضية للوصول إلى المتورطين فيها، ويرجع الفضل إلى "إحسان عبد القدوس" ومجلته "روزا ليوسف" أن أوصلت أخبار هذه الصفقات المشبوهة إلى الرأى العام الذى هاله مبلغ الفساد الذى استشرى فى كل شيء حتى وصل إلى المتاجرة بدماء جنود مصر فى أرض المعركة، ونجحت "روزا ليوسف" فى تكوين ضغط شعبى كبير اضطر معه وزير الحربية "مصطفى نصرت" فى ذلك الوقت أن يقدم بلاغ للنائب العام لفتح تحقيق فيما نشر بصحيفة "روزا ليوسف" فى العدد رقم 149 بتاريخ 20 يونيو 1950م عن صفقات الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين وبعد أن قدم وزير الحربية "مصطفى نصرت" بلاغا للنائب العام، قام النائب العام "محمود عزمي" بفتح باب التحقيق فى القضية، وانقسمت القضية إلى شقين: قضية اتهام أفراد الحاشية الملكية، وقضية اتهام أفراد من الجيش والمدنيين، أما فى قضية اتهام "الحاشية الملكية"، فقد قرر النائب العام فى 27 مارس 1951 تحت ضغط الملك وموافقة الحكومة حفظ التحقيقات فيها، أما الشق الثانى من القضية المتهم فيه أفراد من رجال الجيش والمدنيين فقد تم إحالته للمحكمة، واستمرت جلسات القضية حتى تحدد يوم 10 يونيو 1953 للنطق بالحكم، أى بعد قيام "ثورة يوليو" بحوالى سنة،وقضى الحكم ببراءة كل المتهمين من كل التهم المنسوبة إليهم، ما عدا متهمين فقط حكم عليهما بغرامة 100 جنيه على كل منهما، وهما "القائمقام عبد الغفار عثمان" و"البكباشى حسين مصطفى منصور"والحقيقة أن هذا الحكم بالبراءة نزل كالصاعقة على الرأى العام فى داخل وخارج مصر، وخاصة بعد قيام الثورة، فلم يكن هناك سبب للتستر على المتورطين، ونحن لا نعرف يقيناً السبب الرئيسى فى أحكام البراءة ومن المعروف أن حيثيات حكم المحكمة اختفت من سجلات القضاء ولم تظهر حتى الآن، ومع ذلك فسوف يبقى اسم الكاتب الكبير "إحسان عبد القدوس" كواحد من أهم الصحفيين الاستقصائيين فى العالم، و"روزا ليوسف" كمؤسسة صحفية مستقلة من أول الصحافة الاستقصائية فى العالم.