انطلق الرصاصات من كاتم الصوت هذه المرة على أرض بغداد لتغتال "كامل شياع" وهو- كان- واحد من الكتاب المثقفين العراقيين الذين اكتووا بلهيب الغربة، واقتاتوا من خبز المنافى، وشربوا من صديد الملاحقات السلطوية لمدة تقترب من ربع قرن، فقد خرج من بغداد عام 78 مع أمير شعراء العراق "سعدى يوسف" ورفاقهما، وقد عرفته فى بغداد وأول مرة قابلته فيها كانت عام 76 فى مقهى "البرازيلية" قريبا من مقهى "المربعة" الذى يتجمع فيه المصريون، حيث كان صديقى الشاعر الصعلوك "جان دمو" قد قرر أن يدعونى على كوب من "القهوة بالحليب" فى هذا المقهى الذى لا يقدم الشاى ليعطى نفسه تميزا عن بقية المقاهى الشعبية فى شارع "الرشيد"، وفى مقهى "البرازيلية" التقينا "كامل شياع"، وقام "جان دمو" بتعريفى بـ"كامل شياع"، وقد أخذ يشرح لى أنه "شيوعى سومرى من أهوار الناصرية"، وبالرغم من ذلك فهو "طيب إلى درجة السذاجة" و"خجول إلى درجة الطفولة" و"دمه أخف من دم المصريين"، ورد "كامل شياع" أن "جان دمو" مجرد شاعر أشورى قد ولد بسنتين فقط، مما يجعله أعجوبة الشعراء فى "كركوك" فكيف لشاعر ألا يكون له فى فمه إلا سنتين، وبعد أن أكملنا شرب القهوة بالحليب" قرر "كامل شياع" أن ننتقل إلى مقهى "البرلمان" فى شارع "الرشيد" فى مواجهة مسجد "الحيدرخانة"، حيث "الشاى المهيل" الذى يجهزونه فى "الأوجاغ"، وكذلك شاى "الدارسين" وشاى "الحامض" وشاى "الكجرات"، وتدخين الشيشة ومن يومها تلازمنا، فلم أترك "كامل شياع" ولا مقهى "البرلمان بعد ذلك طوال مدة بقائى فى "بغداد"، حيث كنت أعمل صحفيا فى جريدة "الجمهورية" العراقية" وألتقى يوميا به فى المقهى حيث الكتاب والشعراء يلعبون "الدومينو" و"الطاولة" ويلقون بأشعارهم، وبعد مغادرتى "بغداد" بعام واحد تقريبا عرفت أن "كامل شياع" قد ترك "بغداد" حيث المنفى الاختيارى فى العاصمة البلجيكية "بروكسل" منذ عام 87، ولم أعرف أنه عاد إلى "بغداد" إلا فى عام 2003، حيث عمل مستشارا لوزير الثقافة العراقى فى بغداد، وكان يعد من أبرز المطالبين ببناء حركة ثقافية جديدة فى العراق وفق رؤى علمانية، وقد كتب لنا هو بنفسه عن هذه العودة قائلا: "عدت إلى العراق تاركاً ورائى قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسرية، تلك العودة إلى ما حسبته ملاذى الآخر أو الأخير، عللتها لنفسى بأن فصلاً من حياتى صار ماضياً ينبغى طيـّه فطويته، وأن فصلاً آخر قد فتح احتمالاته على مصراعيها أمامى فاستجبت إليه".
لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت فى رحلة العودة التى لم أتخيلها منذ البداية نزهة فى عالم الأحلام، ولم يأخذنى إليها حماس رومانتيكى، لقد شعرت فقط بأننى مدعو لرحلة نحو المجهول، وفى ذلك يكمن سر انجذابى إليها... الموت فى مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحياناً، ولا مبالية إزاءه فى أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السود فى المدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو ابن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت مجالس التأبين معزياً؟ كم مرة وجدت نفسى عاجزاً عن إظهار تعاطفى مع ذوى الضحايا البريئة المجهولة لى؟ كم بكيت فى سرى حزناً على مشاهد الدماء المسفوكة فى كل مكان؟ بعد هذا الانغمار المكثف فى وقائع الموت وأخباره، يسألنى البعض أحياناً، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيراً إلى دوامة العنف المستشرى، أعلم أننى قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً منى".
هكذا كتب "كامل شياع" عن موته وبالرغم من أنه كان يتصور أن القتلة المحتملين لا يعرفونه ولا يعرفهم، ولم يكن يظن أنهم يبغون ثأرا شخصيا منه، ولأن "كامل شياع" كان كما قال عنه "جان دمو" "طيبا إلى درجة السذاجة" و"خجولا إلى درجة الطفولة"، فإنه لم يكن يتصور أن يكون قتلته هم بعض زملائه فى وزارة الثقافة- العهدة على هناء الجبورى- حيث كشف مصدر مسئول فى وزارة الثقافة العراقية، أن السلطات الأمنية المختصة بالتحقيق فى جريمة قتل المستشار الثقافى كامل شياع قد وصلت مراحلها الأخيرة، وسيتم الإعلان عنه خلال اليومين المقبلين وكشف المصدر عن تورط جهات فى وزارة الثقافة بعملية الاغتيال من أجل إبعاد كامل شياع وتقديم "إبراهيم العاشور" أو "فاروق الدليمى" كبدلاء عن "كامل شياع"، علما بأن الجريمة تمت بعلم المفتش العام أحد ضباط المخابرات فى زمن "صدام حسين"، ويشغل مسئول "فرقة الإعدامات" فى الشعبة الخامسة، والآن يشغل منصب المفتش العام فى وزارة الثقافة، وقال شقيق "كامل شياع" أن المعلومات التى أوردها المستشار الأمريكى فى الوزارة كانت على درجة عالية من الدقة خاصة بعد أن اعترف أحد أقرباء المفتش العام الذى كان المخطط لهذه العملية، من جهته استغرب وزير الثقافة "ماهر دلى الحديثى" من تورط المفتش العام فى عملية التصفية، وطالب الجهات الأمنية بإنزال أقصى العقوبات بحق المجرمين، وتساءل عراقى سومرى مجهول: "لماذا هذا الرجل الحالم بعراق جميل ومسالم؟ هل أصبح الحلم بعراق رائع وجميل يهددكم أيها القتلة المجرمين يا أفاعى الحقد والكراهية، يا من تزرعون الموت بدل السنابل، وتزرعون الحقد بدل الياسمين، وتزرعون الدمار بدل الأعمار، وإلى متى يبقى العراق على هذا الحال؟ إلى متى يبقى المجرمون هم السائدون فيك أيها العراق العظيم؟ إلى متى يبقون يذبحون أبناءك يا عراق، هؤلاء القادمون من وراء الحدود الممتلئون حقداً وكراهية لكل ما هو جميل وكامل فيك يا عراق الخير والبركة، كانت مثل هذه الفترات المظلمة فى تأريخك يا عراق، ولكنك لفظتهم وألقيت بهم فى مزابل التاريخ، ويا أسفى عليك يا كامل يا وردة سمراء بعطر المسك والعنبر أيكون دمك قرباناً آخر لمستقبل العراق الذى كنت تحلم به؟"
وداعا كامل شياع.
• كاتب وروائى مصرى.