عندما بلغ الكاتب الكبير محمود السعدنى الستين من عمره، كتب مقالا فى أخبار اليوم عن الستين، قال فيه إنه عندما كان شابا لم يكن يتصور الوصول إلى الستين، أما وقد وصل إلى الستين فسوف ينظر له الشباب مثلما كان ينظر إلى من بلغوا الستين، ثم كتب فى السبعين كتابه الذى يودع فيه الطواجن، والأطعمة الدسمة التى كان يحبها.
وبالرغم من سخريته التى تصنع إطارا، فقد كان يقدم داخل السخرية فلسفة عميقة، ربما لم يكن الكثيرون يهتمون بها، خاصة هؤلاء الذين اكتفوا باعتباره كاتبا ساخرا وكفى. مع أنه كان مشغولا بالكثير من الأسئلة الكبرى اختفت خلف كتابته الساخرة التى جمعت دائما بين العمق وخفة الدم المتناهية دون أن يدخل فى سياق الإفيهات.
كل من يتذكر السعدنى يتذكر الكثير من قفشاته وحكاياته التى كان يحول فيها النقد إلى سخرية، بالرغم من كتاباته الأدبية المبكرة التى لم تخل من سخرية عميقة وإن كانت لا تثير الضحك الكثيف مثلما تفعل حكاياته المتأخرة . فقصته جنة رضوان كانت تقدم أحلام البسطاء عن الجنة، الفران الفقير الذى لا يتصور الجنة أكثر من طبق فول وماء بارد من القلة وحياة على ضفاف الحياة.
السعدنى وللدهشة هو أكثر من أرّخ لأبناء جيله من الفنانين والكتاب والمفكرين، المجهولين أو كبار المثقفين الذين لم يتسن للقارئ العادى أن يتعرف عليهم، وفى كتابه "مسافر على الرصيف" تكتشف مع السعدنى شخصيات مثل زكريا الحجاوى وعبد القادر القط ومحمد عودة وعبد الحميد الديب وعبد الحميد قطامش . منهم من اشتهر وعرف ومنهم من لم يبق عنه سوى القليل.
السعدنى فى مسافر على الرصيف كان يؤرخ لنفسه وذاكرته ومقهى عبد الله فى الجيزة، حيث يجتمع المثقفون قبل أن يكتملوا أو أثناء التكوين، ويلتقط الكثير من التفاصيل المهمة عن حياة هؤلاء المثقفين من كل الألوان. والذين يمثلون جيلا يتكرر مع أجيال سابقة أو لاحقة.
محمود السعدنى فى كتابه لم يضع نفسه مركزا للكون ولا حرص على أن يصنع من نفسه أهم شخصية، وقدم رواية تتشابك أطرافها وتلتقى من حيث تفترق وتعود إلى نقطة المركز. ومع أن مسافر على الرصيف لا يضم السخرية المشهورة عن السعدنى فقد نشره فى صورة فصول بمجلة الدوحة أيام الكاتب الراحل العظيم رجاء النقاش، كان السعدنى معروفا لجيله لكنه غير معروف لمن ولدوا أو عاشوا فى نهاية الستينات والسبعينات عندما كان السعدنى مبعدا. وهى الفترة التى أرخ لها فى كتابه الولد الشقى فى المنفى. والمدهش أن ثلاثة أرباع كتب السعدنى صدرت فى سنواته العشرين الأخيرة، بعد عودته واستقراره فى مصر.
محمود السعدنى كان كاتبا فى الأساس لديه دائما أحلام أن يسجل الكثير من الروايات والقصص والكتابات المنوعة التى ملأت كتبه وفاضت على من حوله.كان يمتلك كالكثير من الموهوبين أسلوبا يبدو سهلا فى الشكل لكنه ممتنع عند محاولة تقليده، لهذا فقد فشل الذين حاولوا الحياة فى جلباب السعدني، لكن نجح من تلاميذه من اختط لنفسه طريقها الخاص.
السعدنى الساخر ليس الذى يضحك أو يزغزغ لكنه كاتب فى الأساس له قضيته وأفكاره والسخرية قالب يضع فيه ما يلائم الفكرة، لا يتعامل مع الكتابة الساخرة على أنها إلقاء النكت والمونولوجات.السعدنى ليس مجرد كاتب ساخر لكنه فى الحقيقة أديب ظل طوال عمره يحمل أفكاره وأحلامه.
لقد كان السعدنى ناقدا اجتماعيا يستخدم السخرية فى نقده ولهذا دخل فى جدل مع كثيرين قالوا أو طالبوا بالنقد البناء، فقال فى مقال ساخر من مقالاته إنه لا يوجد حاجة اسمها النقد البناء فالنقد عامة هو نقد يهدف للهدم من أجل البناء. لهذا فهو امتداد لكبار النقاد الاجتماعيين عبد الله النديم وبيرم التونسى وغيرهما. ربما لهذا فإن رحيل السعدنى لايعنى اختفاءه، لأنه ترك تراثا من الكتابة الكثير منها يخلد ويستمر، ومعه السعدنى الذى لا يغيب ظرفه ولا تغيب أفكاره.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة