فعلاً وليس مجازاً كان محمود السعدنى هو نجم العزاء، الذى أقيم للكاتب الكبير محمود السعدنى، هو بشحمه ولحمه وكتبه وقفشاته، وبالرغم من الفقد لم أشعر بأى افتقاد للسعدنى، الذى كان حاضراً فى كل تفصيلة من تفاصيل العزاء، الذى كان واحداً من أساطير السعدنى، فى كل كرسى وفى وجه كل من الوجوه التى مثلت كل أجيال مصر وكل مؤسساتها العامة والخاصة، للساخرين والعابسين والضاحكين والباسمين، من كل التيارات والاتجاهات اليسار واليمين والحكومة والمعارضة، السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية والسلطة التى تسمى رابعة الصحافة، تلك السلطة التى تحققت بفضل من هم على شاكلة محمود السعدنى ومحمد عودة وكامل زهيرى وزكريا الحجاوى وعبد الرحمن الخميسى ومحمد عفيفى وعبد الحميد الديب وعبد القادر القط ونجيب محفوظ ورجاء النقاش، ومحمود عوض ويوسف الشريف، وما تزال تتحقق بأفضال أحمد رجب وصلاح عيسى، وتستمر فى أجيال تتدرج من الكهولة للشباب، أجيال تحمل الراية وتسلمها لغيرها بلا انقطاع، وتلك كانت قوة مصر فى كتابها وفنانيها، هؤلاء الذين يتنافسون على الجمال وليس على المال.
مثلما كان محمود السعدنى ابناً لبيرم التونسى وعبد الله النديم، فقد كان شجرة مثمرة، لهذا لم يكن الأخير كما يزعم البعض، فقد كان طوال حياته لا يكف عن الإشادة، كان أستاذنا الكبير محمود السعدنى هو أهم الحاضرين فى جنازته وعزائه، لقد كان يروى ويحكى، ويتحدث كما لو لم يكن انقطع سنوات قليلة مضطراً، وتسمعه وهو يقول "يااد يا فلان اعمل كذا هات كذا"، هكذا كان وهكذا سيظل.
وحده محمود السعدنى كان قادراً على جمع المتناقضين فى مكان واحد، انتظاراً لأن يبدأ حديثه الشيق، ترى أجيالاً من نقباء الصحفيين ونقاباتهم ترى النقيب الحالى والسابق والأسبق للصحفيين، والمحامين، ونادى القضاة، ويعرف القادمون من الأرياف أن بعض صالونات العزاء تكون "شرحة"، وليلته حلوة، هكذا كانت ليلة عم محمود تضم كل معارفه وأحبابه وتلاميذه، الذين يؤكدون أنه لم يمت، لأنه ترك تراثاً من الكتب يستمر قادراً على إثارة الدهشة وتشغيل الدماغ والسخرية من الجميع، حتى هؤلاء الذين سخر منهم السعدنى كانوا حاضرين، لأن السعدنى لم يكن يسخر من أشخاص، بل من تصرفات ومواقف، هكذا علم من بعده وتعلم ممن قبله.
لقد كانت مصر بكل فئاتها موجودة فى وداع محمود السعدنى، وكان هو وحده يحكى ويتحدث عن أيامه وحكاياته فى مصر والمنفى ويقدم المجهولين قبل المشهورين، كيف يغيب عن مناسبة كهذه.
لقد جرت العادة أن أى قريب للوزير أو المسئول يتسابق المعزون، أما الوزير نفسه فلا أحد يذهب، بينما كانت جنازة محمود السعدنى تضم مصر بكل طوائفها، ومنهم قراء السعدنى أو بعض ممن التقى به أو سمع منه، والتقط منه فكرة أو عرف عنه موقفاً، حتى كبار قراء القرآن تسابقوا للتلاوة، لا شك كان السعدنى نفسه سيهتز لها، فقد كان عاشقاً للقراءة، والحياة. لم يكن السعدنى منبتاً، فقد كان شجرة من سلسلال الكتاب العظام، الذين واصلوا الكتابة تعبيراً عن أفكار تمثل الناس وتعبر عمن لا يستطيعون التعبير.
كانت جنازة السعدنى وعزاؤه، تأكيداً على أن الرجل كانت له أصول وزمالات، وله تلاميذ من كل الأجيال، تعلموا منه وكل منهم عبر عن نفسه بشكل مختلف، لقد كان السعدنى شجرة مثمرة، ولهذا لن يكون الأخير، بل هو استمرار لسلسلة الكتاب المصريين والعرب، الذين يمثلون أجمل ما فى هذا الوطن ويجعلونه قابلاً لأن يعاش، ألف شكر يا عم محمود السعدنى وليرحمنا الله..