ندمت كثيراً حين علمت منذ فترة طويلة بمرض الكاتب والناقد الكبير فاروق عبد القادر، وكان مبعث ندمى أننى لم أكتب عنه وهو فى صحته حتى يعرف أن كثيرين يقدرونه ناقداً قديراً عظيماً، كما يقدرون نضاله الدائم من أجل أن يبقى مستقلا بعيدا عن المؤسسات الرسمية، وبالرغم من أنه دفع ثمن ذلك كثيرا، إلا أنه لم يلن فى مواقفه ولم يطوع قلمه خارج قناعاته، وأكسبته هذه الاستقلالية، القدرة على الاستغناء، وهى القيمة التى تزود المبدع بأعظم الصفات، وهى تخليه عن ارتباطات قد تؤدى به إلى تقديم التنازل وراء الآخر، من أجل مكاسب المنصب والمال والجاه.
ودعنا فاروق عبد القادر منذ يومين، بعد أن أفقده المرض لفترة طويلة معرفة من حوله، ورحل بعد ساعات من إعلان وزير الثقافة فاروق حسنى عن جوائز الدولة، وكان نصيب عبد القادر منها جائزة التفوق، وللأسف لم يكن فى وعيه حتى يحدد موقفه منها، خاصة أنها تأتى من مؤسسة ناصبها العداء على طول الخط، لكنها لم تستطع نكران أنها أمام قيمة كبيرة تستحق ما هو أرفع من جائزة التفوق.
تعلمنا من كتابات عبد القادر النقدية للرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، أن لغة الناقد البسيطة والرصينة والبعيدة عن الفذلكات الأكاديمية، هى التى تقرب العمل الأدبى إلى القارئ، وتساعد على نشر هذا العمل، شرط أن تكون هذه اللغة قائمة على فهم عميق للنص الأدبى.
وفى الوقت الذى تميز فيه عبد القادر بلغته الخاصة الجذابة، كان يسير هذا التمايز جنبا إلى جنب مع ثقافته الموسوعية، مما أعطى لكتاباته النقدية ثقلاً مميزاً وثقة كبيرة فى أمانتها ودقتها، وكان العمل النقدى الذى يحظى بمتابعته النقدية محظوظا إلى حد كبير، وأنا أقول ذلك رغم علمى أن الراحل كانت له خصومات شهيرة فى الأوساط الثقافية المصرية قادته إلى إغفاله لعدد من المبدعين الكبار، ليس هذا فحسب بل إنه كان معادياً لإبداعاتهم، لكن لم ينفِ هذا أنه كان عمدة فى مجاله، الذى أعطانا من خلاله دراسات نقدية رائدة عن أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن منيف والطيب الصالح والطاهر وطار وصنع الله إبراهيم وألفريد فرج وأسامة أنور عكاشة وحيدر حيدر وإميل حبيبى وجبرا إبراهيم جبرا وسعد الله ونوس وغسان كنفانى وعشرات غيرهم.
فى عام 1996 زرت الروائى الكبير الراحل عبد الرحمن منيف فى منزله بالعاصمة السورية دمشق وأجريت معه حواراً طويلاً، ويومها حملنى رسالة شفهية إلى فاروق عبد القادر، وكانت مفتتحاً للقاءات متعددة لى معه فى مقهى الحميدية بباب اللوق، وشاركنى فى لقاء منها الصديق الكاتب والناقد الجميل محمد الروبى، ولهذا اللقاء قصة تستحق أن تروى لولا أن المجالس لها حرمتها، المهم أن فى هذا اللقاءات سمعت منه قصصاً ونوادر كثيرة عن يوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله ونجيب محفوظ وأمل دنقل وغيرهم، وسمعت منه عن الشلل الثقافية وقدرتها على رفع فلان وخسف علان، وعن أسماء ذاع صيتها فى الإبداع ليس لأنها مبدعة بالفعل وإنما لإجادتها للعلاقات العامة.
ومنذ أربع سنوات فوجئت به فى صالة العزيزة على قلبى صحيفة "المصرى اليوم"، وكنت أعمل فيها وقتئذ، جلست معه طويلا وخرجت معه إلى الشارع كى أقوم بتوصيله، وكان حديثنا يدور حول ذكريات إضافية أخرى، بالإضافة إلى رحلة إقلاعه عن الشرب وتأثيرها الإيجابى عليه، وقلت له ما رأيك فى أن أسجل معك هذا الكلام، رحب كثيراً وطلب مهلة على أن أعاود الاتصال به للتنفيذ، لكنها ذهبت كغيرها من الأفكار التى تلمع فى وقت، ثم تدهسها المشاغل، ونكتشف قيمتها الكبيرة حين نفقد مصدرها، بالضبط كما حدث مع فاروق عبد القادر، هذا الناقد العظيم الذى لم نفقده منذ أيام، وإنما منذ شهور طويلة حين داهمه المرض وأقعده، فخلت الساحة من صيحاته النقدية الجميلة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة