شىء ما غير طبيعى وراء قيام محمد الفايد الملياردير المصرى الأكثر غموضا وشهرة ببيع هاردوز، شىء ما لا علاقة له بالتقاعد والاستمتاع باللعب مع الأحفاد وكل هذه الأسباب اللطيفة التى روج لها الفايد وهو يبرر تنازله عن سلسلة المحال الأشهر فى لندن بل فى أوروبا كلها، شىء ما غامض يقف وراء ذلك الإعلان المفاجئ عن بيع «هاردوز» للأسرة الحاكمة فى قطر بعد أقل من 70 يوما فقط على تصريحات الفايد التى نفى فيها لصحف لندن إمكانية بيع «هاردوز» مهما كانت الإغراءات المادية..
غموض الصفقة وغموض تفاصيلها وإن كان مثيرا للفضول ومغريا لمحبى الأسرار، فإنه على جانب آخر يبدو طبيعيا إذا كان متعلقا برجل مثل محمد الفايد الذى لو اجتمع أدباء العالم بهدف وضع التفاصيل المثالية لشخصية الرجل الغامض فلن يجدوا أفضل من الفايد لوصفه ووصف تفاصيل حياته ورحلته التى بدأت من على أرصفة ميناء الإسكندرية، وانتهت وهو على قمة الهرم الاقتصادى والتجارى فى دولة كبرى مثل إنجلترا..
علامات الاستفهام الكثيرة والغريبة والعجيبة والمريبة التى تدور حول شخصية الفايد هى التى شكلت هالة الغموض تلك، ورغم كثرتها ورغم ما تثيره تلك الأسئلة من فضول فإن أغلبها يبقى بلا إجابات، وحتى الأسئلة التى صادفتها بعض التفسيرات تبقى تفسيراتها غير مؤكدة أو غير كاملة إن شئنا الدقة.. إذا ذهبت نحو الفايد وحاولت اللف والدوران فى محيط حياته ستتعثر حتما فى هذه النوعية من الأسئلة التى صنعت غموضه وجعلت منه هدفا مثيرا.. وحتما ستجد أول الأسئلة اللى «بتتنطط» أمام وجهك هو: لماذا لم تمنحه إنجلترا الجنسية حتى الآن؟ وهل صحيح أن شك الإنجليز فى مصدر ثروته هو السبب؟ ومن أين جاء الفايد بتلك الثروة الهائلة؟ وهل لتجارة السلاح فضل فى تكوين تلك الثروة؟ وهل علاقته بعدنان خاشقجى رجل الأعمال وتاجر السلاح المعروف هى سبب تلك الثروة؟ وهل صحيح أن ديانا أشهرت إسلامها على يد ابنه؟ وهل كانت حاملا منه فعلا؟ وهل قتلوهما خوفا من أن تصبح الملكة أما لطفل من أصول عربية إسلامية؟ وإذا كان الرجل مصرى الهوى والأصل كما يقول دائما.. فلماذا استثمر وتملك فى كل هذه البلاد -الولايات المتحدة ولندن ودبى وباريس وسويسرا وأسكتلندا وغيرها- ولم يفكر فى إفادة بلده الذى يبحث ويهرول ويتنازل ويبوس الأيادى ويقدم التسهيلات للغريب قبل القريب من أجل الحصول على المزيد من الاستثمارات الأجنبية؟ ولماذا قرر أن يترك لندن ويذهب للعيش فى سويسرا بدلا من العودة للقاهرة؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من علامات الاستفهام التى تدور حول شخصية الملياردير المصرى المهاجر محمد الفايد الذى أصبح نموذجا وحلما وفخرا للكثير من المصريين فى الداخل والخارج، خاصة من الشباب، لم تجد إجابات شافية أو حتى مريحة أو حتى نصف مرضية، فهو يتكلم بحساب، ويفضفض بالقطارة ويتعامل بالمازورة، ويحسب عدد الحروف ودلائلها قبل أن تخرج من فمه، وحتى بعدما نجح الإعلامى المتميز عمرو أديب فى اختراق الحصار الإعلامى الذى فرضه الفايد حول نفسه وحصل لبرنامجه «القاهرة اليوم» على أول حوار تليفزيونى لوسيلة إعلام عربية ولولا براعة عمرو أديب كمحاور ومثقف متميز لما قال الفايد نصف ما قاله، ومع ذلك كانت إجابات وردود الفايد على عمرو أديب تطرح أسئلة أكثر مما تمنحنا من إجابات.
سؤال واحد من عمرو أديب أجاب عنه محمد الفايد فى 6 كلمات، أجاب بشكل حاسم وواضح ولكنها فى نفس الوقت إجابة تحمل الكثير من غموض الملياردير المصرى المعروف بفرعون لندن.. سأله عمرو أديب ذلك السؤال التقليدى الذى يجب أن تطرحه على رجل باع أملاكه وقرر أن يتقاعد وقال له: بعد تصفية أعمالك هل قررت العودة إلى مصر أو متى ستعود للعيش فى الإسكندرية؟ أو هل تنوى العودة والاستثمار فى القاهرة؟ كان عمرو أديب يعيد توجيه السؤال للفايد بصياغات مختلفة رغبة فى استخلاص إجابة مختلفة عن ما كان يطرحه الفايد طوال السنوات الماضية، وللأمانة نجح عمرو أديب فى ذلك.. انتزع من الفايد ولأول مرة إجابة حاسمة وقاطعة ولكنها فى نفس الوقت صادمة وتفتح بابا واسعا لأسئلة خطيرة ومهمة.. قال الفايد بحسم: (لن أعود إلى مصر إلا فى تابوت).
أرجوك لا تعتبرها إجابة عادية لأنها بالأساس لم تصدر عن شخص عادى بل صدرت عن رجل الجدل الثائر حوله منذ سنوات يكفى لأن يشغل وطنا لمئات السنوات، إجابة الفايد الحاسمة تطرح من ضمن ما تطرحه سؤالا ربما يكون هو الأخطر وربما تكون الإجابة عنه هى الطلب الأكثر إلحاحا لكثير من المصريين.. والسؤال هو: لماذا يرفض الفايد العودة إلى مصر؟
المصريون اعتادوا دوما أن يخرجوا إلى أوروبا وأمريكا والخليج ليصنعوا الكثير من المال، ويصنع كل منهم إمبراطوريته الذاتية ويحقق أحلامه الخاصة ولكنه يعود مع نهاية المطاف، يعود حينما يشعر بقرب الأجل وعدم الرغبة فى العمل وبعدما يحقق كل شىء، هكذا تعودنا وهكذا قرأنا فى أغلب قصص المصريين الذين نجحوا فى الخارج.. فلماذا لم يتصرف الفايد على هذا النحو؟ ألم يكتف بما حققه من نجاح؟ ألم يقل هو بنفسه إنه باع هارودز لأنه قرر أن يتقاعد ويرتاح؟ ألم نقرأ فى كل قصص الناجحين فى الخارج أن قرار التقاعد يتبعه قرار العودة إلى الوطن الأم؟
هناك أسباب إذن وراء ذلك القرار المريب والغامض الذى اتخذه محمد الفايد بعدم العودة إلى القاهرة إلا فى تابوت، وبالنظر إلى تفاصيل حياة الفايد ذلك الملياردير الشهير وطريقة تفكيره يمكننا حصر أسباب رفضه العودة إلى مصر الآن فى خمسة أسباب.. أولها يتعلق بأن بالفترة الذى نشأ وبدأ فيها فى بناء نفسه خلال الخمسينيات والستينيات حيث كان لرجال السلطة رغبة فى الاطلاع على كل كبيرة وصغيرة، وكان لمراكز القوى فى مصر نفوذ لا يمكن أن يغفله أحد، وكان للمخابرات دور فى تحريك الأمور وتسييرها حتى تلك الأمور المتعلقة بالبيزنس والمال، لا تستبعد أبدا أن يكون الفايد قد تورط فى واحدة من تلك الأعمال المخابرايتة التى كنا نسمع عنها فى ذلك الوقت، ولا نستبعد أيضا أن تكون محاولات الفايد اللحوحة خلال تلك الفترة فى بناء نفسه وإمبراطوريته المالية قد أدخلته فى صراعات مع آخرين من داخل السلطة أو على علاقة قوية برجال السلطة الذين يعشقون اقتسام كحكة المال مع رجال الأعمال، وعلى اعتبار أننا نتكلم فى مصر على نظام اعتمد فى أغلب حالاته على تواصل الأجيال بدليل أن رجال السلطة الأشهر فى مصر، إما أنهم خريجو الاتحاد الاشتراكى أو التنظيم الطليعى، أو كانوا على صلة بالنظام فى عصرى عبد الناصر والسادات، فيمكن أن يكون أحد هؤلاء الذين كانوا صغارا حينما كان الفايد يبنى نفسه كرجل أعمال لديه خصومة مع الفايد و«تار بايت» يخشى الفايد العودة بسببه، أو قد تكون تصريحات الفايد المتواصلة التى تنشرها الصحف البريطانية عن مناخ الاستثمار السيئ فى مصر وعدم تقديمه أى نوع من أنوع المساعدات لمصر أو النظام السياسى خلال فترة تواجده ببريطانيا صورت له أن عودته للقاهرة ستكون عودة الأشخاص غير المرغوبين فيهم، وأنه قد لا يلقى المعاملة التى لا تليق به على اعتبار أنه لم يخدم النظام الحاكم، بل على العكس كان يسىء إليه بكثير من التصريحات، وبالمثل قد لا يجد ترحيبا شعبيا فى الوطن الذى يسأل أهله أنفسهم: لماذا لم يستثمر الفايد فى مصر؟ ولماذا لم يساعد بلده فى عز أزماته السياسية والاقتصادية؟
السبب الثانى قد يكون متعلقا بأحد صراعات البيزنس الشهيرة بين رجال الأعمال وبعضهم، وهناك الكثير من القصص عن عمليات قتل وإجرام تمت فى إطار حروب رجال الأعمال مع بعضهم، ومثل الفرضية السابقة ربما يكون للفايد خصومة يخشى إعادة بعثها مع أحد رجال الأعمال الذين بدأوا معه فى تلك الفترة وأصبح يملك من النفوذ والمال داخل مصر ما يزرع الشك فى نفس رجل مثل الفايد يريد أن يتقاعد لا أن يعود لكى يصفى حسابات قديمة.
السبب الثالث يتعلق بشخصية الفايد وتصريحاته الصادمة، فالرجل الذى عاش فى أوروبا حيث حرية التصرف وحرية الكلام وحرية الانتقاد التى وصلت إلى أنه اتهم زوج الملكة بأنه «ابن حرام» واتهم المخابرات والحكومة البريطانية بالنصب والقتل، لا يمكن أن يتحمل العيش فى القاهرة حيث لا كلام إلا بإذن، وحيث سقف الانتقادات والاعتراضات أكثر انخفاضا مما قد يتحمله الفايد الذى اعتاد أن يطلق تصريحاته دون وضع أى اعتبار لأى سقف أو حد أو رمز، وفى نفس الوقت لا يمكن أن يكون رجل بذكاء الفايد قد فات عليه أن الكثير من تصريحاته وأساليب حياته وحياة أبنائه البنات والرجال قد خلقت بينه وبين المجتمع الشرقى الإسلامى الكثير من العداوة، وهذا يبدو واضحا من الهجوم الذى تعرض له الفايد فى مختلف الصحف والمنتديات العربية حينما وصف محال «هارودز» بأنها مكة للدلالة على تفردها وتميزها، ثم عاد وتحدث عن إمكانية تحنيط جثته بعد الموت، بل إن الكثير من الإسلاميين وأبناء الجماعات المتطرفة دعوا إلى قتله وهددوا بمعاقبته أسوة بما يحدث مع أى أجنبى تجرأ وأهان الرموز الإسلامية.
بعد مقتل ابنه دودى رفع الفايد دعوى قضائية مازالت مستمرة منذ أكثر من10 سنوات ضد الحكومة البريطانية متهما إياها بإخفاء معلومات عن مؤامرة لاغتيال الأميرة البريطانية الراحلة ديانا وابنه دودى الفايد، ومن هنا يمكننا أن نستخلص السبب الرابع الذى قد يكون متعلقا بخشية الفايد من أن يكون هو شخصيا هدفا لتلك العناصر المخابراتية بسبب إصراره على الاستمرار فى القضية، وبسبب استمراره على توجيه الاتهامات التى تفضحهم وتقلقهم وتهز صورتهم فى بلاد نحن نعرف جيدا أن مؤسساتها تخشى على صورتها أمام الجمهور، وبناء على ذلك ربما يعتقد الفايد أن تأمينه فى سويسرا وأوروبا قد يكون أسهل من القاهرة بكثير.
السبب الخامس والأخير لرفض محمد الفايد الحاسم للعودة إلى الإسكندرية، مدينة طفولته وشبابه، لقضاء أيامه الأخيرة بها على عكس أغلب المهاجرين الذين يشعرون إلى الحنين إلى أوطانهم فى أيامهم الأخيرة وخاصة المصريين منهم كما قلنا، وعلى عكس القاعدة المصرية الشهيرة التى تقول إن اللى يشرب من مية النيل لازم يرجع لها تانى.. ربما يكون لأن الملياردير محمد الفايد قرفان من مصر أوى واعتاد نظافة أوروبا وسلاسة مرورها ونقاء هوائها، أو ربما لأنه لم يشرب من ماء النيل أساسا وكان متعود يشرب مياه معدنية أو عصير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة