◄◄ كل ما قيل عن مرضه غير صحيح.. ولم يعرف أحد إلى الآن ماذا أصابه.. وقال لى قبل وفاته ياعلى أنا الآن أرى «الله»
إذا كان الموت يعنى نهاية مشروع حياة الإنسان، فهذا معناه أن نصر حامد أبوزيد لم يمت؛ لأن مشروع حياته فى الحقيقة كان على وشك الابتداء، وحتى الآن أنا لا أستطيع أن أتكلم حول «نصر» باعتباره ميتا ولم أستوعب هذه الفكرة بعد، لأنه مازال حاضرا معى فى كل تفاصيل الحياة، وأتخيل أن فترة مرضه وما أعقبها مجرد «حلم» سرعان ما سينتهى لأقابله مرة أخرى، هذا ما قاله الدكتور على مبروك أستاذ الفلسفة الإسلامية وصديق الدكتور نصر حامد أبوزيد ورفيق رحلته العلمية والبحثية والشاهد «الوحيد» على ما مر بـ«أبوزيد» من تطورات المرض، منذ بدايته وحتى آخر مراحله، وفى الحقيقة الحديث مع «مبروك» عن نصر أبوزيد لا يكشف لنا وجه «أبوزيد» الأكاديمى فقط، بل يتخطى هذا ليسم بدقة وبراعة وجهه الإنسانى الذى طالما تجاهلناه، فمنذ خمسة عشر عاما، ونحن نتداول اسم نصر حامد أبوزيد مذيلا بإكلاشيه «مثير للجدل» لكن الغريب هو أن هذا الرجل كان غالبا ما يفضل الصمت، ولم يكن يظهر بوسائل الإعلام المختفلة والمتعددة إلا مرات معدودة، والأغرب هو أنك بصعوبة بالغة تتذكر نبرة صوته وإيماءاته ولزمات حديثه، وكأنه «طيف خفيف» تسمع عنه ولا تسمعه، فمنذ أن تم تكفيره وإصدار حكم بتفريقه عن زوجته اكتفينا بالكلام عنه دون أن نكلمه، وبالشجار حوله دون أن نحاول جديا أن نتعرف إليه، خمس عشرة سنة، نعرف نصر «المشكلة» ولا نعرف نصر «الإنسان» عن هذا الوجه الغائب وعن الأيام الصعبة، والغريبة التى مر بها أبوزيد بإندونيسيا ومصر يحدثنا الدكتور على مبروك عن أيام المحنة الأخيرة التى حولت نصر إلى ما يشبه الأسطورة.
«نصر» لم يمت، ولن يموت طالما لم يبدأ مشروعه الذى خطط له منذ سنين، عن هذا المشروع يحدثنا «مبروك» فيقول: منذ يناير الماضى ونحن نخطط لوضع الخطوات التنفيذية لبدأ مشروعنا البحثى، التقينا فى يناير عشرة أيام ثم اتفقنا على خطوات البحث فى مارس وأبريل وكان لقاؤنا القريب فى مايو الذى اختبرنا فيه مشروعنا على عدد كبير من العلماء المسلمين القادمين من بيئات مختلفة للبحث عن جوهر الإسلام فى قلوبهم والاستفادة من تصور كل واحد منهم عن الإسلام، وكان فريق المستشارين من العلماء يضم جنسيات متعددة وبيئات متنوعة بقدر كبير، سواء من أوروبا أو من أفريقيا أو من آسيا أو من الهند، وكان هذا المشروع نواة لـ«معهد الدراسات القرآنية» الذى كنا نحاول إنشاءه ليكون عملنا مؤسسيا لا عملا فرديا ينتهى بانتهاء صاحبه، وليكون نافذة لنشر أفكار هذا المعهد فى العالم أجمع، وبشرط أن يكون هذا العمل بعيدا تماما عن أيادى أى سلطة أو أية سياسة، ولذلك تقرر أن يكون مقر هذا المعهد بإندونيسيا، وأن يكون له فرع آخر بهولندا، والمؤلم أن نصر حاول أن يقيم هذا المعهد فى مصر، وحينما عرضه على أحد المسؤولين قال له إنه من أنصار مبدأ «الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح» فكان هذا الباب هو نصر ذاته.
يقول مبروك: كان من المفترض أن نتوجه إلى هولندا فى 25 يونيو الماضى لحضور مؤتمر تكريمى لنصر حامد أبوزيد فى جامعته بمناسبة تقاعده، وكان هذا المؤتمر يحمل عنوانا جميلا هو «كيف يمكن أن نقدم إسلاما ذا وجه إنسانى» وأعتقد أن إدارة الجامعة اختارت هذا العنوان فى إشارة منها إلى أن «نصر» هو ذلك الوجه الإنسانى للإسلام، وأنه هو الإجابة الحية على هذا السؤال، وأنه هو الذى حل المعادلة الصعبة بالنسبة للغرب فى أن يكون المسلم متحضرا وعالما وموضوعيا ومتسامحا، لكن للأسف لم نتمكن من حضور هذا المؤتمر لأن حالة نصر الصحية كانت قد بدأت فى التهاوى قبل هذا الميعاد بأيام.
لا يحب «مبروك» فكرة الكلام عن الحالة الصحية لأبوزيد وتطور مراحل مرضه، لما يتعرض له من ألم نفسى من هذه الذكريات الحزينة التى شاهدها عن قرب وكان مراقبها الوحيد، وأول مكتشفيها، فيقول كلمة ويؤخر كلمة ويخرج الكلام من فمه ممزوجا بالألم، وتفلت الكلمات من فمه متقطعة وكأنه يوشوش لك بسر: إلى الآن لم أستطع فهم ما جرى، فلم يكن هناك أعراض واضحة لأى مرض، وكان كل شىء عادى وكان نصر بكامل وعيه وتركيزه، فى كل تفاصيل الحياة، من أول احتياجاته اليومية وبرنامجه العملى، وحتى اتصالاته المتكررة بزوجته الدكتورة ابتهال التى كانت تمنحه قدرا هائلا من المحبة والسعادة بمجرد أن يسمع صوتها ويقول لها: أزيك يا حبيبى، لكن بمرور الأيام أدركت أن هناك شيئا غير طبيعى، وحينما بدأت أشعر أن «الأمور فى النازل» وتأكدت من أنه ليس هناك إمكانية فى بقائه بإندونيسيا على هذه الحال، بدأت فى إجراءات العودة، إلى القاهرة، ولم أتمكن من السفر لأوروبا لمعالجته لضيق الوقت وصعوبة الإجراءات، فكانت القاهرة خيارى الوحيد، وفى الحقيقة لم أكن أتخيل أن تتفاقم المشكلة إلى هذا الحد، فـ«نصر» لم يكن يشتكى من شىء عضوى، ولم يتأثر أى جهاز حيوى فى جسده، وحتى مغادرتنا إندونيسيا كان فى حالة صحية ممتازة، وخرجنا من الفندق معا وركبنا الطائرة سويا «على رجلينا» دون مساعدة من أحد ولا إجراءات طبية، ولا أى شىء، وتناولنا الغذاء، وكنا نتكلم مع بعض طوال الطريق، لكنى منذ أن لاحظت تغيره لم أكن أتطرق معه إلى أمور فكرية عميقة، لأن ذهنه كان شاردا لأوقات كثيرة، وحينما كنت ألح عليه بالسؤال عن حاله كان يقول إنه يمر بمرحلة صوفية عميقة، وأنه فى حالة نادرة من السلام والصفاء، وهذا ليس غريبا على نصر، لأنه كان يعتبر نفسه من مريدى القطب الصوفى الأكبر «ابن عربى» وكان مفتونا بالتجرية الصوفية الإسلامية، وكان زاهدا بالمعنى الكامل، فى كل أمور الحياة، وأول كلمة قالها فى أول محاضرة له بأوروبا هى «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».
يستبعد مبروك فكرة أن يكون ما تعرض إليه «أبوزيد» بفعل فاعل، ويتهكم على من يروج فكرة أن هناك «مؤامرة» أوصلته إلى هذه الحال، ويقول: أرجو أن يتوقف خيال الناس عن إنتاج هذه المغالطات، فأنا أشهد أننا كنا نعامل فى إندونيسيا أحسن معاملة، والشعب الإندونيسى شعب طيب ومتسامح وكان يضع نصر على رأسه، وكانت تربط نصر علاقة قوية جدا بالرئيس الإندونيسى السابق عبدالرحمن واحد، وهو الذى استضافنا فى بلده واقترح علينا أن ننفذ مشروعنا به، وبالمناسبة لم يخضع نصر لأى فحص طبى خارج مصر، ولم نعرف حتى الآن سبب مرضه ووفاته، ومن يقول إنه كان يعانى من فيروس غريب أقول له بل جهلك هو الغريب، فمن الواضح أن الأطباء حينما لم ينجحوا فى اكشاف السبب الحقيقى للمرض اخترعوا موضوع هذا الفيروس ليبرروا عجزهم وضعف مستواهم المهنى والعلمى، ومن الملفت أن حالة نصر الصحية ازدادت سوءا فى المستشفى فى حين أنه كان يتناول عقاقير من المفترض أن تحسن حالته، ففى إندونيسيا كان يعى كل شىء ويدرك كل شىء وكنا كثيرا ما نتكلم حتى فى حالته فكان يقول لى أنه يمر بتجربة روحية ووجد صوفى، ومشاهدة للحقائق، كان ينظر لى وكأنه لا ينظر لى، وأشعر كما لو كانت عيناه تخترق وجهى وترى ما وراءه، وكانت عينه تنظر إلى بسكينة واطمئنان ونور ثم قال لى: يا على.. أنت شاهدى الذى لا يكذب يا على.. أنا أمر بتجربة روحية عميقة وأشعر كما لو كنت أصل إلى مالم يصل إليه بشر.. يا على.. أنا الآن أرى الله.
يبتسم مبروك ويتذكر فتنقلب ابتسامته إلى وجوم: نصر كان بيحب الضحك، لكن فى الفترة الأخيرة أصبح أكثر ميلا للصمت، وكان لا ينطق إلا بحساب، وكأنما لا يريد أن يقطع عالم الصفاء الذى كان يحيا فيه بأية أمور دنيوية أخرى، وبرغم أن نصر كان «حكيم» طوال الوقت، لكنه فى تجربة مرضه كان لا يتكلم إلا بالحكمة أو بالشعر، مجسدا قول النفرى «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».