أظن أن بعضا أو حتى كثيرا من الناس فى هذا البلد قد أصابهم اليأس من السياسة والاقتصاد المصرى، بدليل أن برامج التوك شو الليلة قد فقدت كثيرا من جمهورها والمتابعين لها.
فقد اكتشفوا أن الأمر لا يعدو كونه صراخا يزيد من همومهم ولا شىء يتغير أو يتبدل، فالمعارضة تتكلم والخبراء يحللون وقيادات حقوق الإنسان تبكى وعشرات المئات من الضيوف لهذه البرامج يتكلمون كل ليلة بلا جديد. لم تعد هذه البرامج تثير الدهشة أو تجذب المشاهد الذى كان يرى فيها خلاصا وصوتا يعلو ويمثله أحيانا.
ولم تعد هذه البرامج إلا فرصة أو أملا وحلما لطالب معونة إنسانية بدليل العشرات الذين يقفون على أبواب ماسبيرو فى انتظار محمود سعد فقط لعله ينطق أسماءهم ويحكى عن حاجاتهم للمال، فيتم منحه طلبه من مساعدات المشاهدين الباحثين عن مكان فى الجنة التى وعد الله بها المتصدقين.
وبذلك فأخيرا لم تعد هذه البرامج إلا فرصة لطلب مساعدة مادية أو علاجية.. فتساوت مع برامج طارق علام أول من قدم هذه النوعية من برامج المعونة
وعودة على بدء، يئس بعض الناس من السياسة والاقتصاد والرياضة عموما ولم يبق لهم إلا الفن من سينما وغناء ومسرح أحيانًا حتى لو كان فى ذيل قائمة اهتماماتهم، وكنت كأحد المهتمين والعاملين فى هذا المجال أرى أن قوة مصر الناعمة المتسللة إلى المنطقة تكمن فى هذه المرحلة التاريخية فى الفن، فالسينما المصرية ونجومها ومطربوها ومسرحها مازالوا هم الزاد والزواد لدى كل عربى، حتى أهل العجم قد لا يعرفون عن المنطقة الكثير أو القليل ولكنهم يعرفون فقط معلومة أن مصر هى هوليوود الشرق ومصدر التنوع والبهجة فى المنطقة.. فهل عزَّ على مصر أن تحافظ على آخر قلاعها الصامدة؟!
كنت لا أتمنى أن أكتب بنفس منطق برامج التوك شو الليلة التى خلقت تبلدًا ورفضًا لسماع أخبار نكد، ولكنى للأسف مضطرة لذلك رغم أنى أمتهن الكتابة عن البهجة... عن الفن.
نظرة على حال السينما فى مصر تدعونا إلى الخوف والرعب، فالحالة الاقتصادية أثرت بشدة على الإنتاج السينمائى الذى أفسده المنتجون أنفسهم على مدى عقود، وما يحدث الآن من جدل بين النقابات الفنية من جهة مدعومة بمجلس الشعب، والمنتجين من جهة أخرى يدعونا إلى التساؤل هل سيكون هذاهو المسمسار الأخير فى نعش السينما؟ النقابات تقول إن لديها فنانين فقراء تبحث لهم عن موارد للمعونة، مما دفعها للتتفيش فى دفاتر القوانين القديمة فوجدت أنها تستطيع أن تحصل ضريبة 1% من منتجى الأعمال الفنية عند البيع إضافة إلى 2% التى تحصلها من كل شخص يعمل فى أى عمل فنى حتى لو لم يكن عضوا فى النقابات الفنية.
ويأتى طلب النقابات الفنية فى مرحلة يصرخ فيها المنتجون من ارتفاع أسعار الخامات والعمالة وعزوف الدول العربية عن شراء أفلامهم وأخيرا عزوف الجمهور المصرى حتى عن دعم الأفلام بالمشاهدة، وتحت الضغط يقرر المنتجون وصناع السينما وأصحاب دور العرض أنه إذا أصرت النقابات ومجلس الشعب على موقفهم فإنهم سيضربون ويغلقون دور العرض.. وربما يأتى قريبا يوم نرى فيه الفنانين يقفون على رصيف مجلس الشعب إلى جوار عمال المصانع... فالرصيف فيه مأوى لأصحاب أى اعتراض وشكوى.
ومن حال السينما الذى لا يسر عدوا أو حبيبا إلى حال المسرح، المسرح الحكومى والخاص... مسرح الحكومة يعانى من نصوص وعزوف نجوم عن العمل بملاليم الحكومة، أما المسرح الخاص فقد انطفأت أنواره بعد أن اختفى رواده من عرب أو فئات قادرة على دفع آلاف الجنيهات فى سهرة واحدة.
وبقى جلال الشرقاوى وحيدا يريد أن يستمر ولكن الشمع الأحمر أغلق مسرحه وجلس الرجل وشباب الفنانين الذين يشاركونه العرض على الرصيف أيضا.
وإلى الغناء تصل بنا قاطرة الحديث حيث يجلس مطربونا على الرصيف أيضا بعد أن لفظتهم روتانا التى احتكرت الأسواق والأصوات ووضعتها فى الثلاجة طويلا فصار نجومية الغناء للهجة الخليجية أو اللبنانية.. أجمل الأصوات المصرية تترنح كما أقبحها تماما ولم يعد لدينا من صوت مازال يحارب وحيدا إلا محمد منير.
وحدث ولا حرج عن سطوة الدراما التركية التى احتلت أعين المشاهدين فى مصر ودراما أخرى خليجية وسورية تعلن عن نفسها على القنوات العربية للشهر الفضيل القادم والتى كانت فيما مضى لا تتحدث إلا اللهجة المصرية. ما الذى حدث لفن مصر وأهله؟ هل أصابه ما أصاب السياسة والاقتصاد والرياضة؟ هل سنخفض آخر أسلحتنا فى وجه الزمن والتاريخ.. أم سينفض القائمون على الفن فى مصر الغبار عن أنفسهم ويفكرون فى الخلاص ومعهم القائمون على هذه الدولة.. أم سيتركونهم على الرصيف مع أمثالهم من أصحاب قلة الحيلة؟ الفن المصرى هو آخر قلاعنا سواء حللناه أو حرمناه.. سواء احترامنا أو ظننا أنه مجرد شغل عوالم.. أتمنى أن نفيق قبل أن نجد أنفسنا باكين مثل آخر ملوك الأندلس الذى وقف يبكى على مُلكه فقالت له أمه «ابك كالنساء على ملك لم تستطع أن تحميه كالرجال» وجلس بعدها على الرصيف.