أكتب لك بعد أن قدمت استقالتى !
أمس قررت، وفى السابعة صباحا وقت رنة الجرس على باب بيت «المدام».. تركت لها على تليفونها المحمول رسالة قصيرة: «.. اعذرينى يامدام.. أنا مستقيلة من الشغل.. تقدرى تشوفى حد غيرى.. من النهارده رجعت أكمل دراستى.. مع السلامة يامدام.. ملحوظة: النص شهر اللى ليّه عندك ممكن تشحنى لى رصيد على موبايلى».
أخيرا استرحت.. ياه ه ه ه ه، استرحت من كنس الأرض ومسحها وكسرة النفس ومرمطة كل فجر فى الأوتوبيسات، حتى أرن جرس باب بيت المدام بالدقيقة والثانية، هى لاتستطيع أن توجه لى نص كلمة لو تأخرت.. لكن أنا أحترم نفسى، طبعا عرفت من أول سطر أننى أعمل شغالة.. خادمة فى البيوت، كم سنة وأنا أتنقل من باب لباب ومن بيت لبيت.. خمسة ستة سبعة، وكل بيت شهر اثنين ثلاثة.. أبدا لم أجلس أكثر من ذلك، لكن فى بيت المدام.. جلست سنة، كانت أجمل سنة وأصعب سنة، بدأت معها صديقتين.. صدقنى صديقتين.. أنا والمدام صديقتان.. لاتشرب الشاى إلا من يدى.. لاتفطر إلا عندما أختار لها من الثلاجة قطعة الجبن وملعقة العسل والمربى.. فنجان القهوة أقرؤه لها نقطة نقطة.. ولا أمد يدى فى حوض أو فى شباك أو أرض إلا بعد أن أحكى لها كل القصص التى عرفتها عن جيرانها.. لما كانت القصص بتخلص.. كنت أخترع لها، ونضحك.. كانت لطيفة.. كنت أتصور أنها لطيفة.. ثم ظهرت على حقيقتها بعد أن أصبحت تسدد لى أقساط الجمعية فوق المرتب.. تصورت أننى أصبحت من ممتلكاتها.. تصرخ على أهون سبب.. وتغضب من أقل هفوة.. وأنا فى الأول وفى الآخر بنى آدم.. عندى دم وعندى كرامة وعندى الضغط مثلها تماما.
وقررت أن أنتقم منها.. كانت الخطة بسيطة: صمت تام. مافيش قصص. مافيش كلام فى سيرة الناس. مافيش فطار ولاقهوة ولا أعرف أقرأ فنجان !
لكنها.. لم تهتز، ظلت على موقفها منى.. فقررت أن ألعب معها لعبة مشهورة بين الشغالات.. كنت أخفى أشياء ثمينة من البيت.. وعندما تسأل عنها وهى تصرخ كنت أنهمك فى البحث عنها.. حتى أجدها لها.. فتعرف أننى «عينى مليانة ومش بتاعة الكلام ده». ثم طلعت فى دماغى أكمل دراستى.. أنا ياحضرة ليسانس آداب وكان عندى أمل أكمل دراسات عليا وأناقش ماجستير.. وهم يعنى أصحاب الشهادات زيادة عنى فى أيه ؟
وحتى أضرب عصفورين بحجر.. طلبت مساعدة الدكتور زوج المدام.. وهو رجل فى حاله من البيت للكلية ومن الكلية للبيت.. يهمس إذا تكلم ويسكت إذا صرخت المدام.. وواضح من أول يوم فى الشغل إن الكلمة فى البيت.. كلمتها، وعملت فنجان قهوة للدكتور.. وفتحت باب الموضوع بدون لف أو دوران.. وبصوت جعل المدام تأتى من غرفتها بسرعة تسأل السؤال المعتاد: بتعملى أيه هنا يابنت؟.. ياكرامتى المجروحة.. مدام محترمة فى عصر الجيل الرابع من التليفونات المحمولة تقول لخادمتها الشريفة العفيفة المحترمة: يابنت !
وبلعتها. لكن قررت فى الأيام التالية «أجر ناعم مع البيه الدكتور».. دخلت مزاجى اللعبة.. ثم بنظرة لها معنى أدركت أنه يامسكين محروم.. أستغفر الله على أى إنسان يظن عنى ظن سيئ.. إذا كنت لا أمد يدى لملعقة سكر من المطبخ بدون علم المدام.. هل أمد يدى لزوج المدام نفسه؟
بعد قليل من التفكير.. قلت فى هتاف أنثوى ساحر لايفهمه أحد غيرى: وماله. إذا كان على سنة الله ورسوله.. أيه العيب فى كده.. هو دكتور وأنا كلها خطوتين وأحصله.. هو متزوج وتعيس.. وأنا عزباء ووحيدة.. هو عنده خمسين سنة يعنى أكبر منى بخمسة وعشرين سنة وأصلع وبنظارة.. وأنا شابة ومتعلمة وعندى خدود وردية من غير لاقرص ولا لون، وبيضاء وحلوة وليس فى كعب رجلى شق واحد !
فلماذا لا أتزوجه؟ كده مرة واحدة فكرت.. هذا بيت واسع كبير له أربع غرف.. وصل النور باسم الدكتور وليس له لا ولد ولابنت، وكنت أشرب شاى الساعة واحدة الظهر فى المطبخ حسب نصيبى فى الأكل والشرب.. عندما لمعت فى ذهنى هذه الفكرة.. وأقولك: «قلت لو المدام معندهاش مانع.. هى تقعد فى أوضة وأنا فى أوضة.. البيت كبير وواسع ويستحملنا إحنا الاتنين».
ودخلت المدام المطبخ.. وشخطت وشعرت للحظة أنها قرأت أفكارى.. وعرفت فى ماذا أفكر.. وكدت أقول لها من الخوف والله ياست هانم بأخرف.. وحياة أمى ماكان قصدى.. ثم تراجعت عن الاعتراف الذى هو سيد الأدلة وقلت فى نفسى: حقى.. أحلم كما أريد.. حتى الأحلام فى البلد دى ممنوعة.
وواصلت فى الأيام التالية خطتى لعل وعسى.. لعلنى أغيظ الست وأسرق الرجل.. فى هذا الزمن كل شىء جايز.. أنا أعرف خادمة تزوجت وزيرا وأصبحت سيدة مجتمع أرى صورها فى المجلات ترتدى ألماظ وكتف عارى.. لا أعرف سر حبها فى الألماظ والكتف العارى.. لعل عندها عقدة لا أعرفها، وهناك مطربة معروفة كانت زميلتى فى كار الشغالات.. وكنت أكثر منها خبرة فى بيت سيدة ثرية فى المعادى، وأنا اخترت أن أتزوج على أن أغنى.. على الرغم أن صوتى حلو.. لكن مش ناقصة تعب.. عايزة أرتاح بقى من كسرة الوسط وهدة الحيل.. عايزة أبقى أم.. عايزة بنت زى القمر لما توعى وتفهم ماحدش أبدا يفكرها إن أمها كانت بتشتغل شغالة فى البيوت.
ياخبر أبيض.. حكيت لك كل ده ليه؟.. علشان أنصحك تنصحنى أعمل فيها فاتن حمامة فى أفواه وأرانب وأحب البيه الدكتور.. ولو فعلت: هل يحبنى هو؟ مثله.. لايحب إلا جلاده.. يختشى من ضعفه ومن صمته ويكتفى بالمشى جنب حيط الهانم.. يكتم غيظه ورغباته ويدفن عمره وسنواته ويبكى عندما يغلق عليه باب الحمام.. المكان الوحيد الذى لاتطاله فيه يد المدام وقراراتها الصارمة.. أنا أثق فى أنه يبكى هناك.. خلف هذا الباب أكاد أسمع دموعه تصطدم بالسيراميك.. وأكاد أحلف أنه يحبنى كما أحببته.. نسيت أقول لك إننى أحببته.. أحبه.. أفكر فيه.. وأكتب له رسائل غرامية أرسلها على تليفونه من رقم تليفون لايعرف أحد أنه تليفونى.. أرسل الرسالة من المطبخ وأموت وأشوفه وهو يفتحها فى غرفة مكتبه كأنه عاشق مشتاق.. يقرؤها أمامى مرة واثنتين.
هل يعرف أنها: أنا، أنا التى أقول له «كلما رأيتك أشعر أن جسدى يناديك.. لكى نصبح معا عالما واحدا».
لا، لم تعرف المدام أننى أخونها.. لكنها ضبطتنى وأنا أكتب رسالة غرامية ساخنة.. فطردتنى أنا والسائق.. لماذا يظن أصحاب البيوت دائما أن علاقات الحب لاتنشأ إلا بين الخادمة والسائق.. ولماذا يتحمل السائق أحيانا ذنب حب الخادمة.. للبيه !
لذلك كله.. قدمت استقالة مسببة للمدام فى اليوم التالى.. وتركت لها التليفون الآخر فى المطبخ على أمل أن تفتش فى رسائلى وتتعرف على رقم تليفون «البيه الدكتور».. الذى لم يدافع عنى وهو يسمعها تطردنى.. الحمد لله أننى لم أتزوج هذا الرجل الذى لايملك كلمة فى بيته.. !
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة