دخل الأب بيته فى رمضان مهموماً من قلة الرزق وضعف القدرة وإظلام الدنيا فى وجهه،الأب البائع المتجول البسيط الذى عاكسه أكل العيش، دخل بيته لينام بدلاً من أن ينفجر غيظاً أو حزناً، وبدلاً من أن يقطع الطريق على المارة ليلاً ليحصل على رغيف حاف، النوم سلطان وما ضاقت إلا ما فرجت، وكل واحد بياخد نصيبه، وربنا هيحلها ، ومحدش عارف من النهار إلى الليل هيحصل إيه.
هكذا كان يحدث الأب نفسه، ويهدئها قبل أن يفتح باب بيته فى "أبو النمرس"، عسى أن يجد كلمة عزاء من زوجته، أو ينسى بضحكة من ابنه أحمد شقاء الدنيا، لكنه يا ليته ما دخل البيت أصلاً، وجد الزوجة الجائعة تبكى سوء حالهم دون سائر الأقارب والجيران الذين يتسحرون ويفطرون يومياً فى رمضان، ووجد ابنه أحمد (3 سنوات) يتعلق به طالبا الطعام لأنه جائع جائع!
تحولت أمنيات الأب أن يجد العزاء فى النوم إلى جحيم إضافى، أطلق شحنات الغضب المكبوت داخله لكن ضد من؟ ضد الطرف الأضعف ضد زوجته وابنه الجائعين اللذين يطالبانه بالتصرف حالاً، وإحضار ما يأكلانه.. يعنى أسرق ولا أقتل أنا بياع سريح على باب الله، وعلى قد ما بيرزقنى بجيب لكم، رد الأب، لكن الزوجة صعدت ضغطها ووضعت أمامه قيمة الرجولة فى كفة وبقائها جائعة هى وابنها فى رمضان بالكفة الأخرى
تصاعد لومها العنيف إنت مش راجل، الابن أحمد الصغير الذى طالما تعلق برقبة أبيه ونال منه الحلوى والقبلات لا يعرف هذا الميزان القاتل الذى واجهت به أمه أباه، لجأ إلى أبيه كما تعود أن يفعل دائماً لكن بقصد الشكوى من الجوع عايز آكل.. عايز آكل.
ليس الوقت وقت مداعبة أو شكوى، فالأب مشغول بنفى العلاقة بين قلة الرجولة وقلة الرزق ، مشغول بألا ينكسر أمام امرأته حتى لو أدى الأمر لإسكات صوتها بالضرب ، وتنزل كفاه على وجهها باللطمات المتتابعة "اسكتى.. اسكتى" ، وتتصاعد صرخاتها ليزداد هياج الصغير أحمد وبكاؤه وارتعاشه من الخوف والجوع معاً، لكنه لا يجد غير أبيه المرعب يلجأ إليه من رعبه .. والغضب، يعمى الأب عما يطلبه ابنه الصغير من عطف وأمان، الغضب أعماه فأمسك بابنه الذى طالما داعبه وعطف عليه، وألقى به باتجاه الحائط كأنما يتخلص من كل هموم الدنيا ومن الحائط الذى دفعته إليه الزوجة .. أنت مش راجل.. أنت مش راجل.
أحمد الصغير الذى لم يتجاوز السنوات الثلاث ارتطمت رأسه بالحائط فلقى مصرعه على الفور، وارتفعت صرخات الزوجة تتهم زوجها بالقتل.. أنا.. قائل.. من.. أحمد لم يجد الزوج القاتل الغاضب المهان الفقير الجائع، إلا أن يفتح باب الشقة ويجرى ، يجرى هرباً من جريمته ومن صورة ابنه ورأسه المشجوج وأنفاسه المتلاحقة وروحه الطاهرة تصعد إلى بارئها، يجرى هرباً من فقره ومهانته وعجزه، لكن أين يهرب وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، أين يهرب وعينا ابنه المنطفئتان تلاحقانه فى كل مكان حتى داخل الحجز بعد إلقاء القبض عليه.
القانون له مجرى واحد ويأخذ دائما مجراه بعقاب المخطئ ، والأب رسميا قتل إبنه ، وهناك تكييف قانونى لجريمته ، كما أن هناك عقابا بالسجن ينتظره ، لكن من يعاقب الظروف والملابسات التى حولت الأب إلى إنسان مهان عاجز يائس وجائع لا يرى فى الحياة إلا هما يجب التخلص منه، ومن ثم أصبح من السهل أن يتحول إلى مجرم ، يتساوى فى ذلك سواء قتل ابنه أم قطع الطريق على المارة
من يحاكم القتلة ،الذين أجهزوا على الإنسان داخل الأب القاتل فى أبو النمرس؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة