للسفر بالقطار بين مدن وقرى مصر المحروسة طعم لا مثيل لحلاوته، وللريف المصرى من خلف زجاج نافذة القطار حلاوة لا تدانيها حلاوة أخرى، تعود بى الذاكرة لما يقرب من أربعين سنة عندما كنا نحن شباب وفتيات مدينة دسوق نركب القطار الذاهب إلى الإسكندرية كل صباح، حيث المدارس والجامعات، وكم من الصداقات التى استمرت بعد ذلك أكثر من نصف قرن كانت بداياتها فى هذا القطار، وكم من العلاقات الغرامية البريئة التى نمت بين شباب وفتيات تجمعهم عربات القطار فى كل صباح وهم فى طريقهم لكلياتهم فى جامعة الإسكندرية، منها علاقات انتهت بالزواج بعد التخرج وكان نتيجتها أبناء وأحفاد بعد ذلك، ومنها علاقات انتهت بالفراق وبقيت مجرد ذكرى للحب الأول فى بدايات الشباب..
ولرؤية قطار يجرى على القضبان حنين يدفع من يراه لأن يستجمع كل مشاعر الشجن التى تستدعى كل وجوه المسافرين الذين فارقونا للمدن الأخرى، هو الحنين والشجن الذى يشعر به كل القادمين من صعيد مصر إلى مدن وجه بحرى وهو نفس الحنين ونفس الشجن الذى دفع الشاعر العظيم الراحل "أمل دنقل" يكتب أغنية "يا وابور الساعة اتناشر" التى غنتها "عفاف راضى"، وهو نفس الإحساس الذى دفع المطرب العظيم "محمد عبد الوهاب" ليغنى لنا أغنية "يا وابور قوللى رايح على فين"، إنه قطار السكة الحديد الذى يرتبط فى الوجدان الشعبى المصرى بحالة الشجن والحنين الناتجة عن الغربة وفراق الأحباب سعيا وراء الرزق أو بداية لحياة جديدة فى مدينة جديدة، وسوف تبقى هذه المشاعر تجاه قطارات السكة الحديد بالرغم من بعض كوارث القطارات وتلك الكوارث الرهيبة التى ألمت بهذا المرفق العريق فى السنوات الأخيرة لا أعادها الله على الشعب المصرى مرة أخرى، وسوف يبقى السفر بقطارات السكة الحديد هو الأكثر متعة وإنسانية وراحة.
نقول هذا بمناسبة القرار الذى قررته هيئة السكة الحديد فى خبر تناقلته أغلب الصحف المصرية، فقد قررت هيئة السكة الحديد فتح باب الحجز للقطارات الإضافية لأبناء الوجه القبلى بمعدل يتراوح من 5 آلاف إلى 7 آلاف تذكرة يومياً، وتحدد عدد 3 تذاكر للشخص الواحد أما أكثر من ذلك فيتم الصرف عن طريق بطاقة الرقم القومى منعاً للتلاعب، حيث يتم تصوير البطاقة وتسجيل أرقام التذاكر خلفها لتسهيل ضبط الراكب إذا قام ببيع التذاكر فى السوق السوداء، كما قررت الهيئة أن يكون الحجز من مكتب القاهرة فقط "محطة القيام" وعدم الحجز من محطات الوصول لإحكام السيطرة وضمان عدم تسرب التذاكر، وهذا الإجراء يتم لأول مرة منذ أعوام طويلة، أكد رئيس هيئة السكة الحديد على التواجد المستمر لشرطة السكة الحديد والمخبرين داخل وخارج الشبابيك لضبط أى راكب يتردد على أكثر من شباك لشراء عدد كبير من التذاكر تمهيداً لبيعها بأضعاف أسعارها مستغلاً رغبة عدد كبير من المسافرين فى قضاء العيد مع الأهل فى الصعيد، وأن شرطة السكة الحديد تمكنت من ضبط 2800 تذكرة للصعيد مع 22 موظفاً بالفنادق التى اعتاد العاملون بها التجارة فيها بمعاونة 8 من العاملين بالسكة الحديد.
تذكرة السفر بالقطار من الإسكندرية إلى القاهرة فى الدرجة الأولى كان ثمنها (فى شبابي) 3 جنيهات وثمنها اليوم 35 جنيها تمشيا مع الأسعار الحالية والتطور الهائل الذى حدث فى القطارات والخدمات التى يقدمها للمسافرين، وهذا طبعا غير قطارات النوم بالنسبة إلى خط القاهرة/ الأقصر/ أسوان حيث أنواع القطارات الفاخرة (التوربيني) والتى تقوم هيئة سكك حديد مصر بتشغيلها فالهيئة القومية لسكك حديد مصر ( س.ح.م ) هى شركة قطاع عام تمتلكها الحكومة المصرية بالكامل، وتقوم بتشغيل خطوط السكك الحديدية المصرية ولكن قطارات النوم تقوم بتشغيلها شركة خاصة "شركة آبيلا ABELA"، ويتحرك قطار النوم ما بين القاهرة وأسوان ويتوقف فى محطات الجيزة وأسيوط والأقصر وتكون عربة النوم مكونة من عدة كبائن حيث تتكون الكابينة أو "القمرة" من سرير أو سريرين (بثمن أعلى)، ويمكن للرجل المسافر مشاركة رجل آخر كما يمكن لأى سيدة أن تشارك سيدة أخرى فى نفس الكابينة.
اليوم ازدحمت القطارات وتعددت حوادث القطارات بسبب الإهمال (أو القدر) لكنا ندعو الله كثيرا فى مثل هذه الأيام المباركة أن يجنبنا حوادث القطارات وسوف يتحمل الزحام كل أهلنا فى صعيد مصر السفر إلى بلادهم فى المناسبات السنوية ، وسوف يتحملون السفر بالبطاقة وارتفاع أسعار التذاكر لكنا لن نتحمل الإهمال، وكل سنة وكل القطارات طيبة والهيئة القومية لسكك حديد مصر(س.ح.م) بدون حوادث، ونود بهذه المناسبة أن نهديها أغنية "يا وابور قوللى رايح على فين".