ذبح السودان الذى تجرى وقائعه هذه الأيام بسكين الاستفتاء، يعد آخر دليل مؤسف على غباء النظام السياسى فى مصر، ذلك أن السودان لم يكن مجرد جار مهم لمصر فحسب، بل كان، وسيظل، البلد الذى تربطنا به وشائج مائية متينة منذ تفجر نهر النيل فى الوادى العريق، الأمر الذى يؤدى لا محالة إلى حدوث شروخ لا حصر لها عنما ينشطر هذا البلد الكبير (2.5 مليون كيلو متر مربع) إلى دولتين.
فإذا علمت أن إسرائيل كانت تخطط منذ عام 1959 إلى فصل الجنوب، وتأسيس دولة هناك يكون ولاؤها إلى تل أبيب بالدرجة الأولى، وإذا علمت كذلك أن ألف خبير إسرائلى فى كافة المجالات قد زاروا جنوب السودان فى الآونة الأخيرة وفقاً لما ذكره الكاتب الكبير فهمى هويدى فى الشروق، أقول إذا علمت كل ذلك، فلك أنت تخمن ماذا يكيد أولئك وهؤلاء لمصر؟ وماذا يدبر الخبثاء فى عالمنا المعاصر من أجل المزيد من تفتيت الأمة العربية أكثر وأكثر؟
أنت تعرف وأنا أعرف أن الرابطة المائية التاريخية بيننا وبين السودان بامتداد السنين قامت بتوطيد الأواصر بين الشعبين بصورة إيجابية، من أول الصلات التجارية حتى علاقات الزواج والمصاهرة. ولعلك تدرى أيضاً أن محمد على باشا حاكم مصر فى النصف الأول من القرن التاسع عشر (1805/1848) هو أول من أوفد البعثات الأوروبية لاكتشاف المنابع الأولى للنيل، ومن هنا تم اكتشاف أرض السودان التى كانت تعج بقبائل من كل جنس ولون لا تحكمها دولة سياسية موحدة. كما أظنك تدرى أن الملك فاروق كان يلقب بملك مصر والسودان، إذ ظل البلدان يمثلان وطناً واحداً منذ عصر الخديوى إسماعيل (1863/1879) حتى سنة 1956 عندما اختار السودانيون الانفصال عن مصر فى استفتاء شهير.
حسناً.. إذا كان الأمر كذلك، فما الذى حدث لتصل الأوضاع إلى هذا المستوى البائس من الشروخ والتصدعات فى هذه العلاقة التاريخية؟ وكيف استطاعت إسرائيل أن تؤسس لها قاعدة فى جنوب السودان تلهب خيال الناس هناك وتشحنهم بشهوة الانفصال؟ ولماذا سكت السلطة فى مصر طوال العقود الأخيرة وهى ترى إسرائيل، فضلاً عن أفواه الدول الغربية تتلمظ على خيرات الجنوب السودانى خاصة البترول والمعادن؟
إذا سألتنى عن السبب وراء هذه المصيبة (وأكرر المصيبة) التى تجرى فصولها الأولى هذه الأيام، فليس عندى تفسير سوى أن السلطة فى مصر وصلت إلى درجة غير مسبوقة من الغباء السياسي، حيث افتقد هذا النظام أى رؤية سياسية شاملة تضع نصب أعينها مصالح الشعب المصرى (وأكرر الشعب) فى المقام الأول، حيث كان، ومازال، الهم الأول والرئيسى لهذا النظام هو تأمين بقائه فى الحكم لأطول فترة ممكنة، فأحوال المصريين بلغت أوضاعاً مؤسفة طوال العقود الأربعة الأخيرة، وأحوال الناس تسير من سيء إلى أسوأ من سنة إلى أخرى، ومن قرن إلى آخر، ولعل العمل الإجرامى الذى شهدته كنيسة القديسيين فى الإسكندرية مطلع هذا العام يؤكد مدى التدهور الذى يعترينا نحن المصريين، حيث أخفق النظام تماماً فى توفير مناخ ملائم يعمل فيه الناس، كل الناس... مسلمون ومسيحيون، بمودة، ويتمتعون بحياة كريمة، يمارسون فيها طقوسهم الدينية بحرية وهدوء. أقول للأسف فشل النظام فى إدارة شئون وطن كبير، حتى أحرقت أكبادنا جرائم متخلفة كنا نظن أنها بعيدة عن فضائنا المصرى المتسامح.
لا يغيب عن حصافتك بطبيعة الحال أن انفصال الجنوب كان حصاداً مراً للثمرة الفاسدة التى زرعها حكام السودان طوال نصف قرن من الزمان، إذ لم يبذل هؤلاء الحكام أى جهد يذكر لضبط أوضاع الجنوب واستيعاب أهله سياسياً واقتصادياً وثقافياً فى المنظومة الكبرى لدولة السودان الموحدة، خاصة فى العشرين عاماً الأخيرة، منذ استولى الرئيس الحالى عمر البشير على السلطة فى انقلاب عسكرى سنة 1989، هذا الانقلاب الذى أيدته مصر آنذاك.
المثير للاندهاش أن المرء يعجب حين يجد أن حاكم السودان الحالى الذى ظل يحكم بلداً بأكمله لمدة عشرين عاماً، لا يعترف بأخطائه التى جعلتهم يخطفون منه نصف وطنه، تاركين إياه يحكم النصف الآخر فقط.
أما ما يوجع القلب حقاً، فيتمثل فى أن السودان يضم بين أضلاعه 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ولكن الجزء الذى يتم استثماره منها لا يتجاوز 5% فقط. فى حين أن الأراضى المصرية الصالحة للزراعة لا تزيد عن ستة ملايين فدان. تخيل معى لو أن حكامنا، هنا وهناك، اهتموا بشعوبهم... فكيف كان الحال لو تعاون فلاحو مصر العظام مع الأراضى الزراعية الشاسعة والمهجورة فى السودان؟ بل كيف كان مستقبل أمتنا العربية كلها لو قدم المصريون والسودانيون نموذجاً ناصعاً لتبادل المنافع والمصالح؟
لا أعرف إن كنت تذكر أغنية عبد الوهاب التى شدا بها فى مطلع خمسينيات القرن الماضى واسمها (نشيد الجهاد) أم لا؟، حيث كان الموسيقار الأكبر يترنم بحماس قائلاً: اعملوا تنولوا واهتفوا وقولوا السودان لمصر ومصر للسودان.
يا خسارة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة