أجمل ما فى هذا المشهد أنه لا يتغير، تابع معى الكادر الأول الذى يظهر فيه الديكتاتور الذى يكون فى الغالب رئيسا لدولة من دول العالم الثالث وهو جالس بثقة فى مكتبه الرئاسى يتحدث عن خططه المزيفة للوطن من أجل عشرات السنوات القادمة، وأمامه وجوه تصحبه منذ عشرات السنين ترسم له خريطة افتتاح كوبرى أو مصنع مع نهاية الخطة الخمسينية القادمة دون أن يضعوا فى اعتبارهم أن هناك انتخابات قد تطيح بهم أو يفكروا حتى فى أن التغيير الإلهى قد يباغتهم ويزيحهم من فوق الكراسى ومن الدنيا كلها.. وفجأة ووسط الحديث عن فترة الرئاسة القادمة وما بعد القادمة تصلهم أصوات غاضبة من الشوارع مع تليفون من الجهاز الأمنى الكبير يطمئن رأس النظام بأن ما يحدث فى الشارع زوبعة فى فنجان وهتعدى زى كل مرة، ثم يستيقظ الديكتاتور فى صباح اليوم التالى على نفس الأصوات الغاضبة وهى تهتف أمام قصره وتطالبه بالرحيل، فيرفع سماعات الهواتف الكثيرة وتأتيه إجابات تتناقض تماما مع التقارير التى كان يتسلمها يوميا عن الشعب الخانع الخاضع والبلد التى يعرف الأمن فيها دبة النملة قبل أن تحدث، يشعر بالخوف وتتسرب القوة التى كانت تمنحها له تلك التقارير من بين يديه، ويفتح الدرج ويخرج ملف خطة النهاية ويقرر أن ينفذ الخطة التى تدرب عليها كثيرا ولم يكن يتخيل أنه قد يلجأ اليها أبدا .. خطة الهروب.
يقفز فى أقرب طائرة ويبدأ رحلة الهروب باحثا عن واحدة من الدول التى كان قد قدم لها خدمات على قفا وطنه وشعبه، ينزل إلى مطار تلك الدولة وينزوى فى أحد قصورها الكائنة بمنطقة نائية خوفا من الملاحقات القضائية وعدسات الكاميرات والفضائح وتتلاشى ذكراه رويدا، رويدا ثم تمر سنوات طويلة أو قصيرة حسب قضاء الله وقدره ويقفز اسمه لسطح الأحداث مرة أخرى يجرى سريعا ضمن شريط أخبار تتحدث بعض كلماته عن رئيس مخلوع قبض الله روحه، يقرأه الناس من هنا ويتعمدون إغفال الحكمة القائلة بذكر محاسن الموتى ولا يقولون سوى راح فى داهية الله يجحمه هو وأمثاله..
تلك هى تفاصيل المشهد الكامل لسقوط الديكتاتور التونسى زين العابدين بن على الذى لم يتخيل أحد ولم يتخيل هو شخصيا أن يسقط بهذه السرعة وبهذا الضعف أمام ثورة شعبية غير منظمة وغير مرتب لها ولم تستمر أكثر من 72 ساعة، المشهد السابق الذى عاشه الرئيس التونسى السابق مشهد للتدبر والعظة يمكنك أن تقرأه بالتفاصيل ضمن صفحات أى من كتب التاريخ السياسى مع تغيير اسم الديكتاتور بالطبع، ولكن يبدو أن زين العابدين أو الديكتاتورات عموما لا يحبون قراءة التاريخ لأنه يخبرهم مسبقا بمصائرهم التى تكون غالبا سوداء كلون ملفاتهم وأيام حكمهم وتسلطهم على الناس.
ما حدث فى تونس ربما يكون مفاجأة على خلفية أنها دولة حكمها زين العابدين بالحديد والنار لا يلفظ المواطن فيها من قول إلا وتم تسجيله بمعرفة مخبرين فى كل مكان، ما حدث فى تونس ربما يكون مفاجأة زمنية لا أكثر ولا أقل ولكنه أمر متوقع الحدوث، كل الحكايات التاريخية والسياسية تؤكد على ذلك وترسم مشهد واحد بخاتمتين لنهاية الديكتاتور- أى ديكتاتور- الخاتمة الأولى الهروب بالطائرة والعيش فى ذل الهروب مثلما فعل زين العابدين، والخاتمة الثانية الموت مثلما حدث مع رئيس رومانيا السابق " نيكولاى تشاوتشيسكو" الذى تم سحله فى الشوارع التى طالما سار فيها متبخترا وطالما سحل على أرضها معارضيه والغلابة من أهل وطنه.
ما حدث فى تونس ربما يكون مفاجأة لأنه لم يأت عن طريق الجيش أو تدخلات خارجية أو عن طريق أحزاب المعارضة أو زعماء تم اختلاقهم عن طريق الفيس بوك وهم لا يفقهون قولا ولا فعلا، بل جاء عن طريق الناس التى صبرت وكتمت الغضب فى صدورها مثلما يفعل أهل المحروسة حاليا ثم تحركوا وانتفضوا وظفروا ببلادهم أو على الأقل قالوا لمن سيأتى بعد زين العابدين بن على أن مصائر أهل تونس لم ولن تعد لعبة فى يد فرد واحد أبدا.
ما حدث فى تونس درس حقيقى فى قدرة الشعوب على تغيير مصيرها حينما تريد وحينما تملك الرغبة والإرادة قبل كل شئ، درس حقيقى لا يجب أن يمر علينا دون أن نستوعبه ونذاكره بشكل جيد حتى لو تأخر الامتحان فيه سنوات أخرى قادمة، والأهم من كل ذلك أنه درس صعب يجب أن يتعلم منه كل ديكتاتور فى العالم ألا يجلس أبدا وفى بطنه بطيخة صيفى لأن الشعب قادر على "شق" أى بطيخة و"قزقزة" لبها بسكين غضبه وإرادته.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة