لم يستقبل يومه بدعائه المعتاد "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم" ولم يبتسم فى وجه من ألقى عليه تحية الصباح ليرد "صباحو أبيض بالصلاة ع النبى" ولم يشرب كوب الشاى بالحليب "اصطباحة" ولم ينم كعادته مهدودا من التعب، لأن فكره كان مشغولا بما سيحدث فى الصباح، فكر كثيرا، فى العيال وأمهم، والإخوة وأحوالهم، وأصدقائه وكيفية استقبالهم للخبر، فكر كثيرا، وتردد أكثر من مرة وقال لنفسه "يا واد اخزى الشطان" وسريعا تذكر إيجار المحل، وفواتير المياه والكهرباء، ومخالفات الحى، ومتأخرات البضائع، ومصاريف البيت، وجهاز البنات ودروس الأولاد فاسودت الدنيا فى عينه، ثم قال "هى موتة ولا أكتر؟"
لم يكن عبده عبد المنعم حمادة الذى أصبح فى ساعات حديث العالم كله أول من فكر فى أن يبدأ صباحه بإشعال النار فى جسده كما فعل فى صباح الاثنين الماضى أمام مجلس الشعب، آلاف المصريين غيره يقررون نفس القرار ثم يعدلون عنه لأسبابهم المختلفة، البعض يصعب عليه مفارقة أبنائه، والبعض يخاف من عذاب الآخرة، والبعض يؤلمه أن يقال لأبنائه إن أباهم مات كافرا، والبعض يخاف من العذاب قبل الموت وبعده بعد أن عاين العذاب فى حياته، لكن عم عبده لم يكن ليرجع فى قرار اتخذه، فما أهون العيش إن كانت المذلة شعاره ولافتته التى تجثو على الرقاب.
فكر عم عبده، وقرر، ونفذ، بعد أن أيقن أن الحل هو "الحرق" عشرون رغيفا جعلته يكره الحياة فأراد الموت، حرص على الموت لعل أبناءه ينعمون بحال أفضل، لم يقرأ عم عبده قصائد الحلاج ليترنم قائلا "اقتلونى يا ثقاتى إن فى موتى حياتى" لكنه قرأ الحياة بأوجاعها فأيقن أن الموت رحمة، ولم يقل له أحد ناصحا "احرص على الموت توهب لك الحياة" لكن خبرته المريرة علمته أن الفرق بين الحياة والموت هين، ولم يسمع بيت المتنبى الذى يقول فيه إذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا، ولا حتى حين قال: "فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم" لكنه وعى كل هذا بقلبه فهانت عليه الحياة فى لحظة، بعد أن ضاقت عليه سنين وعقود.
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا.. وحسب المنايا أن يكن أمانيا
قالها المتنبى بعد أن تم إحباط أحلامه فى مصر، ورأى حاكمها "كافور الأخشيدى" يستبد بها وبثرواتها، فقال عنه وعن حاشيته
"لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم.. إلا وفى يده من نتنها عود"
فتمنى عم عبده الموت ورآه شافيا لأوجاعه برغم أنه لم يقرأ المتنبى ولم يعرف قصته، وفى الجزائر ثلاثة فعلوا ما فعله عم عبده، وفى موريتانيا واحد، ومازال الحرق مستمرا، والجميع يقتضى بمحمد بوعزيزى شهيد ثورة الياسمين الأول فى تونس ومحركها العظيم، لم يقرأ بوعزيزى كذلك أسطورة العنقاء التى تحكى أن هذا المخلوق الخرافى يحترق ليولد من جديد، لكننا شاهدنا جميعا كيف احترق ابن تونس يأسا، فولدت تونس أملا لها ولكل جيرانها وأشقائها.
أشعل عم عبده النار فى جسده، وفى الأيام القادمة سنسمع عن حوادث أخرى مشابهة، فقد فتح بوعزيزى الطريق لليائسين، وللأسف ستخلف لنا هذه الحوادث الكثير من المشوهين، والكثير من العجزة واليائسين، والهمة التى أظهرتها الحكومة فى الاعتناء بعم عبده، ستخفت شيئا فشيئا، حتى تتجاهل هذه الحوادث تماما بعد أن تنبه على أعوانها بالتكتم عليها.
وليس ببعيد أن تجد حكوماتنا تحرض الناس على أن يحرقوا أنفسهم، موفرة لكل مواطن "عود كبريت" ليتخلص منها وتتخلص منه فى ضربة واحدة، عود كبريت لكل من سُلب حقه، ولكل من باع كليته أو كبده، ولكل من باع طفله، ولكل من باع جسده، ولكل من وقف فى طابور التعيين ولم يصبه الدور، ولكل من وقف فى طابور العيش فلقى مصرعه، ولكل من وقف فى طابور أنابيب البوتاجاز فمات قبل أن يحملها، ولكل من اجتهد فجاء ابن لكبير فلحس اجتهاده، ولكل من ترملت فلم تجد ما يعينها سوى الهوان والمذلة، ولكل من انتظرت ابن الحلال فلم يأتها إلا الوهن فى عيونها والشيب فى شعرها، والانحناء فى ظهرها، ولكل من انتظر فتاة الأحلام فلم يجدها حتى فى الأحلام.
عود كبريت لكل طفل من أطفال الشوارع لم يجد مأكلا إلا ما خلفته القطط والكلاب من القمامة، ولكل يتيم قُهِرَ، ولكل سائل نُهِرَ، ولكل فتاة أجبرت على التعهر لتكسب قوت يومها وتجد ما يستر أبناءها أو أخواتها.
عود كبريت لكل معارض، ولكل "غلبان" ولكل قبطى ولكل مسلم ولكل شيعى ولكل قرآنى ولكل سنى، ولكل يسارى ولكل يمينى ولكل مثقف ولكل جاهل، ولكل عاقل ولكل مختل، ولكل أنثى ولكل ذكر، ولكل مريض ولكل سليم، لكل موظف ولكل عاطل.
عود كبريت يخلصنا جميعا، فعلى طريقة الصوفية قد يكون الفناء سبيلا للبقاء، وعلى طريقة الأساطير قد يكون الاحتراق أول سبيل البعث والولادة.