ما تزال ردود أفعال السادة المسئولين عندنا على حوادث الانتحار تثير العجب، وقد رأينا كيف تسعى كل وزارات الحكومة أمام أى حالة انتحار لتثبت أن المنتحر مجنون أو مصاب بقلق، أو أنه مطلق ومختلف مع زوجته، أو عاطل عن العمل، دون أن يتوقفوا أمام ما إذا كانت لديه مطالب إنسانية يستحق نليها أم لا.
وإذا نظرنا إلى كل منتحر سنجد لديه طلباً صغيراً عملاً أو أرغفة عيش أو علاجاً أو دعماً إنسانياً، وكلها فى الواقع يمكن أن تدخل ضمن حوافز الاستثمار، لكن ما رأيناه طوال العقود الماضية أن الحزب الوطنى وحكوماته تفرغوا لبحث حوافز الاستثمار، وتجاهلوا حوافز الحياة للمواطنين، وقد رأينا عبده عبد المنعم وهو ينتحر من أجل عشرين رغيف عيش، لكن الدكتور مصيلحى، وزير التضامن، بعد أن قدم شهادات أن عبده مجنون قدم لنا ما يشير إلى أن عبده يهدد بابتلاع 17 مليار جنيه دعماً، مع أن عبده فى حكم القانون مستثمر يحتاج إلى حوافز استثمار، والرجل "اتخرب بيته" من أزمات المقطورات ووقف الأحوال ولديه أسرة.
كما أن أحمد هاشم، منتحر الإسكندرية، لم يجد عملاً ولا دخلاً وحرق نفسه، ورأينا الحكومة تسارع لاتهامه بالجنون، وأمام كل قضية انتحار نكتشف أن الأمر كله يتعلق بالعدالة، وأن ما يتردد عن حوافز الاستثمار هو فقط منح الأراضى لمن يسقعها أو منح الإعفاءات لمن لا يستحق ومطاردة المواطن العادى بالضرائب والأسعار، فإذا اشتكى تتهمه الحكومة بأنه يهدد الاستثمار والدعم والاقتصاد.
وقد ظللنا طوال الدورات البرلمانية الماضية نسمع ونرى مناقشة مجالس الشعب والشورى والوزراء حول الاستثمار وجذب الاستثمار وحوافز الاستثمار، مع سحب حوافز الحياة من المواطن الذى هو رأسمال الاستثمار وعصبه وهدفه. لم تفكر الحكومة فى أن تمنح المواطن بعض الحوافز التى تساعده على العمل والحياة ويجرى "قطم وسط المستهلك بضرائب المبيعات على الهواء والشمس".
والحقيقة وراء الانتحار أن عبده أو هاشم أو صبرى أو رمزى أن أحدا منهم لا يشعر بأن البلد بلده، بل بلد ناس ثانية، هناك شباب يعجز عن إقامة مشروع صغير ويدوخ السبع دوخات بين الحكومة والمحليات وتحاصره القروض والفوائد، بينما تذهب الأراضى بعشرات الآلاف من الأمتار لمن يسقع أو يبور.
والنتيجة حصول المحظوظين غير الجادين على القروض ليتحولوا من مستثمرين إلى متعثرين ثم إلى هاربين. أو يقيمون المشروع ليحصلوا على الإعفاء وبعدها يغيرون اسم المشروع ليحصلوا على المزيد من الإعفاءات.
مع أن الاستثمار ليس فقط إعفاءات، لكنه مناخ عام يرتبط بالسياسة والاستقرار والحالة المادية والإنسانية للمواطن. ولا يمكن لبلد أكثر من ثلاثة أخماس سكانه تحت خط الفقر أو حوله أن ينجح فى إنجاز استثمارات مهما كانت الحوافز.
النظام لا يفكر فى حوافز للمواطنين، مثل فتح أبواب العمل أمامهم بدلاً من الجلوس على المقاهى، وتحفيز الشباب بتقديم دراسات لمشروعات صغيرة. مثلما حدث فى آسيا وغيرها من الدول التى نجحت فى الاستثمار عندما وضعت المواطن فى المقدمة وليس الأجانب. ثم إن مناخ الاستثمار ليس معزولا عن المناخ السياسى والحريات ليست للمستثمرين فقط وإنما للمواطنين عموماً. فالحزب الوطنى ذات نفسه منافٍ للاستثمار وللحريات، ولا دور له إلا التصفيق للتعليمات، والإشادة بالتحركات. حوافز الحياة مهمة مثل حوافز الاستثمار، بل هى التى تفتح الباب للاستثمارات وليس العكس. فالمشكلة ليست اقتصادية، وإنما سياسية، فالحكومة تناقض نفسها، وكل وزير فيها جزيرة وحده، والتحرك بالقطعة وبلا تنسيق.
والحال أن أدوات الدولة كلها من برلمان وحكومة تمنح المحفزات للمتحفزين، من أعضاء الوطنى، وتحرم منها المواطنين الذين يتحولون إلى منتحرين.