الحكومة تنوى رفع أسعار البنزين والسولار حتى يصل الدعم لمستحقيه، هذا أهم خبر اقتصادى رددته الصحف خلال الأيام الماضية.. بينما ردد الشارع المصرى نكتة أقوى حينما قال إن الحكومة تنوى رفع أسعار البنزين والسولار حتى يتوقف المواطنون عن حرق أنفسهم.. إلا أنى أعتقد أن الحكومة سترفع أسعار البنزين والسولار حتى تجبر المواطنين جميعا على حرق أنفسهم على أن يتم توزيع الدعم على مستحقيه الذين نجوا من المحرقة.. بينما وصف وزير الأوقاف الدكتور حمدى زقزوق ظاهرة الانتحار بأنها عملية استعراض.. ولم أفهم المدلول اللغوى لهذا الوصف.. كل ما أعرفه أن الانتحار لا يمكن أن يكون عملية استعراض إلا فى السيرك.. ولكن الانتحار فى الشارع فهو عرض مجانى للقهر والذل والألم.. وإذا كنا نؤمن جميعا بقوله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم".. فهذا لا يعنى أننا مقتنعين بأن هؤلاء المنتحرين هم الذين قتلوا أنفسهم.
ثم إن كافة المنتحرين يعانون من اضطراب عقلى بأمر الحكومة.. مجانين لا يخضعون لدين أو تكليف أو تشريع.. فكل من ينتحر الآن يستخرج له شهادة جنون بدلا من شهادة الوفاة.. فإذا صدقنا ذلك.. فما الذى دفعهم للجنون الجماعى فجأة ؟ وفى عملية استعراض كما وصفها أستاذنا الجليل.. فى علم النفس يوصف المنتحر بأنه ضحية لعلاقته بالمجتمع فتختلط داخله أحاسيس الانعزال اليأس والاكتئاب وعدم القدرة على التكيف ويشعر بألم انفعالى لا يطاق ولا يوجد حل لعذابه سوى الانتحار.. فالانتحار رسالة عدائية موجهة للآخرين عن طريق قتل الذات.. فليس هناك عداء أفظع من أن تقتل أكثر من تحب (نفسك ).. فما هى الرسالة التى خرجنا بها من تلك العدائية المتكررة ضد الحياة بيننا فى مصر المحروسة.. هل أدرك مسئولو الدولة عشرات الأسباب التى دفعت هؤلاء الضحايا للانتحار بداية من الفقر المدقع وانتهاءً بالفساد الإدارى الذى أصاب كافة مؤسسات الدولة حتى أن بعضهم انتحر بسبب فشله لسنوات فى الحصول على توقيع وزير أو مسئول على ورقة تؤكد حق ضائع أو ترفع عقاب جائر أو توفر فرصة عمل أو نفقات علاج.. هل أدرك النظام الاقتصادى وقياداته العظيمة ( أن الجوع كافر) وأن الملايين ينامون الآن بلا عشاء أو غطاء أو حتى أمل هل أدركوا ان خططهم التنموية ( لو صدقت ) فهى عاجزة وبطيئة وأن الشارع يحتاج لمنظومة تنموية أشمل وأسرع فى الوصول إلى الناس لتوفير مطالبهم المعيشية البسيطة.. هل أدرك النظام السياسى أن القاعدة العريضة من الشعب غاضبة محتقنة تريد حرية حقيقية بعد ان شبعنا من الشعارات والحكايات والإنجازات الإعلامية وأن الوجوه الملونة بالسلطة ورأس المال أصبحت مقلقة للأمن القومى وأن اختفاء المعارضة مثلها مثل اختفاء الجهاز المناعى لجسم الإنسان.. هل فهم المسئولين أن الناس تغلى من الغلاء وخائفة ومقهورة أمام الارتفاع الدائم والغير مبرر للأسعار.. هل أدركوا بأن أحلام الناس تموت وتتقلص كلما زاد التضخم.. هل أدركوا أن تلك المصطلحات الاقتصادية من عينة الاحتكار والتخصيص والدعم الموجه والضرائب ورسوم التنمية أصبحت كالأشواك فى فراش النائمين.. أم صدقوا أن كافة المنتحرين كفرة أو مجانين كما يحبوا أن يقال.
و( نحن) هذا المجتمع اللاهث العابث الغائب.. ألم نلتفت لأى رسالة منهم ؟ لماذا اكتفينا بلوم الحكومة والمسئولين فقط ولم نلتفت لرسالتهم إلينا.. ألا ندرك كم أصبح مجتمعنا جافا قاسيا عنيفا مع الفقراء والضعفاء أو الغلابة كما نحب أن نطلق عليهم فى (مسكنه) مصطنعة .. رغم أن أكثر من نصفنا غلابة بالمعايير الدولية أو بالقياس لخط الفقر العالمى.. والغريب فينا أن كل (غلبان) دائما ما يجد الأغلب منه ويطلع غلبه عليه.. فأصبح المعيار الأول فى تعاملاتنا مع بعضنا هو قدراتنا الشرائية أو قيمة ما نمتلك من عقارات أو سيارات أو أموال.. لا قيمة فى ما نمتلك من أخلاق أو سلوك أو تعليم أو حتى كرامة.. حتى صار الفقر وصمة عار ونقمة كبرى وكارثة عظيمة وهم ثقيل.. تخيل أنك لأى سبب فقدت مواردك الاقتصادية أو ممتلكاتك وأموالك من سيقف معك من الأهل أو الأصدقاء أو المعارف ؟؟ .. أنت لا شىء سيدى للأسف بدون محفظتك و( الفيزا كارد) الخاص بسموك.. أنت ضعيف فى الشارع بدون سيارتك الفارهة وملابسك اللامعة وضعف لو اضطرتك الأيام للمبيت فيه.. هذا المعنى النفسى الخطير ينمو داخلنا بلا توقف وتؤكده تعاملاتنا المشتركة كل يوم والتفكير فيه فقط يدعوا للانتحار بالسكتة الدماغية.. فما معنى أن أفقد كل شىء حينما يضيع منى شيء واحد.. أى عدالة اجتماعية فى أن نتعامل كحصالات النقود ,, هذه المعادلة الاجتماعية المشئومة هى التى دفعت رجل مسن من سنتين تقريبا الى قتل ابنه الشاب وابنته وزوجته فى حادثة مشهورة واعترف الرجل بأنه قتلهم خوفا عليهم من الفقر بعد ان خسر كل ما يملكه فى البورصة وترجاهم أن يعدموه ومات فى زنزانته مقهورا.. ولا نستطيع حتى الآن أن نحكم عليه فهل كان هو القاتل الحقيقى أم واحد من الضحايا.. فلماذا كان الخوف من الفقر إلا لأننا مجتمع لا يرحم ,, يستبيح كرامة الفقراء ويشقق عليهم وكأنهم (جربه ) ,, مخلوقات أدنى فى المقام والحدود والحقوق والوجود ويكفيهم منا نظرة إحسان أو صدقة أو أن نعاملهم بتواضع مفهوم للطرفين.. هذا النموذج لو وجد من عشرات السنوات لوجد الكثيرون يتكاتفون حلوله ويساعدونه ويرحمونه من خوفه على أسرته ومستقبلهم .. فمنهم من يوفر له العمل ومنهم من يتكفل بمصاريف الأسرة ولو لفترة ومنهم من يساعده بمال حتى يبدأ فى تجارة أو حرفة .. هذه هى معالم الزمن الجميل الذى يتغنى به أجدادنا ولا نعرف إن كان حقيقة أم مجرد أغان .. ولكنه على الأقل واقع ملموس فى العديد من المجتمعات المتحضرة.. ولسنا فى حاجة لحكومة لتعلمنا معنى التكافل الاجتماعى سواء كنا مسلمين أو مسيحيين نحتاج فقط إلى بعض الرحمة والضمير.. يجب أن نعترف أن المنتحرين فضلوا الموت عن الحياة بيننا.. لا أعرف هل قرئنا تلك الرسالة أم أنها لا تهمنا أم أننا ما زلنا منشغلين بالفتنة الطائفية ومن أسلم ومن تنصر حتى نحترق جميعا فى محرقة جماعية لتهدأ النفوس وترتاح.
الكارثة المخيفة أن نتحدث كل يوم عن الإصلاح والتغيير ونحن لا نحاول حتى أن نغير شيئا مما فى أنفسنا.. الكارثة أن نقول أن الفقر (مش عيب) ونحن نتعامل مع الفقراء على أنهم حثالة حتى أن موت العشرات من أطفال الشوارع كل يوم من الجوع أو البرد أو المرض لا يحرك الكثيرين ولا المسئولين فما الفرق بينهم وبين الحيوانات الضالة إذاُ .. هل نتصور أن مسئولية الأمان الاجتماعى قاصرة على الحكومات فقط .. أى عاقل يصدق ذلك .. نظرة سريعة على كتب التاريخ ستؤكد لكم أن المجتمع هو الذى يحافظ على الدولة ولو فسدت او تخاذلت الحكومات .. يجب أن يكون هناك تحرك شعبى حقيقى لمواجهة الفقر .. وكفانا طنطنة بالجمعيات الأهلية والأنشطة المدنية والمسئولية الاجتماعية للشركات لأن كل ذلك لا يكفى والنتيجة واضحة للجميع .. ابدأ بنفسك واستفت قلبك وسوف تعرف ماذا يجب عليك ان تفعل للغلابة.. وكفانا (فشخرة ) ومنظرة واستعراض على ملايين المحتاجين.. فالأنانية والإجحاف والسلبية والمحسوبية واستغلال النفوذ أصبحوا سمات شخصية فى التركيبة المصرية.. والموضوع لا يحتاج إلى براهين فقط انظر إلى الشارع المصرى وراقب أفعالك الغاضبة دائما وسلوكيات الهرجلة والتخبط والعنف التى تقابلها كل يوم.. ثقافة الزحام والعشوائيات وضيق الرزق والخوف المرضى على العيال أصبحت كالأورام السرطانية فى مجتمعنا الجميل سابقاُ.. ضاعت ملامح العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحس المشترك والقيم الجماعية والأهم من كل ذلك اختفت من بيننا الرحمة والمروءة والتسامح والتضحيات ولو بسيطة .. وللأسف انتظارنا لأى إصلاح سياسى أو اقتصادى لن يجد بنفع طالما لا نتحرك على المستوى الاجتماعى والشعبى والشخصى.
قد أكون قد خذلت العديد من القراء الذين توقعوا أن تكون المقالة فى ذم وتحريم الانتحار ونقل البراهين الدينية فى تكفير المنتحرين وتوضيح خطيئتهم .. ولكنى اعلم أننا جميعا نعرف ذلك علم اليقين .. إلا أن للانتحار الآن رسالة مخيفة للأحياء وددت أن أنقلها لكم .. يمكنكم أن تصدقوها ونقرأ معا ما بين السطور ,, ويمكنكم أن تتجاهلوها وتكذبوها وتقولوا أنها رسالة من مجانين كفرة أو أنهم انتحروا للمشاركة فى عملية استعراض !!! ..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة